بغال الأهرام وثورة الآلام


علي السوداني

وهذا واحد من المناظر التي سيبقى طعمها وألقها يلبط خالداَ راسخاَ فوق شاشة الذاكرة . أقصد منظر تلك الغزوة المباغتة التي قامت بها لمّة من الجمال والحمير والبغال والأحصنة السياحية الملونة ، لميدان التحرير بقلب القاهرة المحروسة الآن بدم ونبض وأدعية ملايين مملينة من بني آدم وبناته . ألغزوة كانت خائبة والمرابطون الكامنون ببطن الميدان ، كانوا استقبلوها كما لو أن عشرة من صاعودي النخيل قد صاحوا بهم : الحذر الحذر ايها القوم ، فلقد دخل المدينة شرّ عظيم . قعدو لهم ” ركبة ونص ” فعقروا ناقة وطعنوا فرساَ وأسروا بغلاَ وغنموا سيفاَ وجزّوا ناصية حتى حق فيهم قول الناس أجمعين : أن المصريين والله ، أصحاب نكتة وملحة وطرفة وضحكة حتى لو حبستهم بجوف جهنم تستعر ، وملهاة ، دموعها تنهمر . منذ عشرة أيام وليلة ، وأنا حارن قاعد لائب في داري ، لا أبرحها ولا تحيد عيناي بعض أنملة ، عن شاشة الهتاف والثورة المبروكة . أعظم الخاسرين في محيط العائلة والعيال ، هما نؤاس وعلي الثاني . الولدان الحلوان يريدان شاشة تمطر عليهما بما تيسر من قفشات وخباثات توم وجيري وسبونج بوب وداني الشبح ، أما أنا ، رب البيت ودكتاتوره الذي لا رادّ لمراده الآن ، فلا أشبع من نشرات الأنباء الموجعة والمسعدة وما بينهما ، فأن تزحزحت وتنحنحت وتساهلت وتنازلت في الأمر ، فربما حدت وذهبت الى مشاهدة أشرطة مجاورة متماهية متعشقة بالمشهد الأول : فلم ” في بيتنا رجل ” أو فلم ” جمال عبد الناصر ” أو فلم ” الأرض ” أو فلم ” الرصاصة مازالت في جيبي ” أما في باب الغناء الذي تستجلبه وتلح عليه ، مائدتي الصاحية بكأس عرق سمينة ، فأم كلثوم و ” أصبح عندي الآن بندقية ” وعبد الوهاب و ” وطني حبيبي الوطن الأكبر ” وعبد الحليم و ” فدائي ، أموت أعيش ، ميهمّنيش ” وسيد درويش و ” بلادي بلادي بلادي ، لك حبي وفؤادي ” وطقطوقات مذهلة وأشعار من احمد فؤاد نجم – الغائب حتى اللحظة – والشيخ امام وعبد الرحمن الأبنودي وشادية ومحمد رشدي وهدى سلطان وفايدة كامل حتى عتبات هاني شاكر وصولاَ الى فلتة ثامر حسني ” كلنا واحد ” الى أخير السهر الناطر صباح ثورة عجيبة بديعة لا تستدعي كتيبة ضباط تزحف صوب قصر الرئاسة ، وعشر دبابات تدير أعناقها نحو دار التلفزيون والراديو ، وتنغيمة البيان رقم واحد الذي سيكتب بأسم الشعب وبعد الأتكال على الله ، وبعد التعريش فوق الكرسي العزيز وغوايته ، ستذهب الرعية بين الأرجل وسيصير الله العزيز ، ديباجة ومفتتحاَ مخدراَ في خطبة سلطان رجيم ، كما هو جل الحال قبل ولادة شباب ميدان التحرير في أم الدنيا . حمى الرب مصر وثورتها وثوارها الأطهار من كل شر ، خاصة شر الفوضى الأمريكية الخلاقة التي طيحت حظ بلد ما بين القهرين وجعلته أسفل سافلين . حمى الله الرحيم الكريم القادر ، أهل مصر الطيبة ، من الفقيه وولايته وطمعه وجشعه وتخلفه وخرافاته وبدعه ووهمه وسرابه . حماها وغطاها بكفّه – جلّ في علاه – من الشائعة ومن الطبخة الفاسدة التي تطبخ بليل . حماها من الذين يقفون على مسافة واحدة من العهر ومن الطهر . حماها من قوم يتباوسون نهاراَ ويتداسسون ليلاَ . حماها من شاعر ديّوس باع شعره البارحة للدكتاتور ، ويبيع اليوم شعره للثائرين . حمى مصر ورغيفها وفولها وجمالها وحرفها المشع ، من شر كتّاب أدباء كذابين ، اذا الريح مالت ، مالوا حيث تميل . سترها من قحبة متقاعدة هجرت علبة ليل حمراء ، واشتغلت بدكان سياسة . حماك من منزلة العشرة المبشرة بالأفسد على سطح الأرض . سترك وغطاك من واحد يشهر بوسة ويضمر طعنة . حمى النيل وناسه ، من أمريكا الوغدة التي ليس لها من خلّ ولا عميل ، حتى لو أشعل عشرته شموعاَ تسيل . حماك واهراماتك والمتحف والسينما والغناء والسلطنة والرقص والأوبرا والحانة والمسرح والشعر والرسم والنحت والكأس والمسجد والكنيسة والصومعة ، من كل ” قندهاري ” يذبحك من دون بسملة . حماك من واحد ، صعد دكة المزاد وبدّل بوصلة القصيدة ، بصرّة دنانير . وختمتها ، الدعاء المستجاب وهو أضعف الأيمان وما تحت اليمين.

Facebook
Twitter