الوطن .. في غربة الشاعر العربي الكبير : يحيى السماويعلي الدندح

 
     إذا أردت أن تكون شاعرًا فيجب عليك أن تكون أولاً عراقياً..هذا ما شهد عليه الشاعر العربي الكبير محمود دويش ، وعندما تذكر الغربة شيئا بديهيا بدا إلآ أن تكون لشاعر عراقي هجر وطنه وأهله وملعب طفولته ونهر بغداده وتمر بصرته ، من أحمد الصافي النجفي إلى الرصافي إلى الجواهري مرورا بالبياتي وبلند الحيدري  والنواب وسعدي يوسف وغيرهم ، وكأنّ الغربة باتت وقفا ً على شعراء الرافدين ، الذين رفدوا الأدب العربي بجداول من معينهم الصافي تبقى رقراقة لا تنضب مع الزمن .
  وشاعرنا اليوم هو امتداد لهؤلاء العظام من شعراء عراقنا الحبيب ، إنه الشاعر الكبير يحيى السماوي صاحب ( عيناك لي وطن ومنفى ) رماد حروف مشتعلة كتبها الشاعر بدم القلب ، والذي لا يحتاج قارئ هذا الديوان إلى عناء ليكشف عن موهبة شعرية متميزة ، وتجربة فنية ناضجة .
   بدأ الشاعر تجربته الشعرية في بداية السبعينات الميلادية مع ديوان ( عيناك دنيا ) تلاه الديوان الثاني ( قصائد في زمن السبي والبكاء ) وبعد صمت سنوات امتد حتى عام 1993 فأصدر ديوانه ( قلبي على وطني ) وديوان ( جرح باتساع الوطن ) .
   ديوانه السادس  ( عيناك لي وطن ومنفى ) يضمّ بقايا رماد حروفه المكونة من ثلاثين قصيدة ، تجمع بين الشعر العربي الموروث والحداثة .. فالقصيدة عنده برزخ بين الأصالة والحداثة . ويؤكد الأستاذ عبد اللطيف الأرناؤوط  في هذا السياق أن :” الشاعر السماوي لا ينحاز إلى أي مذهب أدبي ، أو اتجاه فني معين ، فله من أصالته وثقته بنفسه ما يعصمه عن التقليد والإحتذاء ، فهو شاعر مبدع يعرف كيف يختار تجارب الآخرين ويصبغها بطابعه الذاتي وبداعته الفائقة في حسن التناول و براعة الإختيار ” .
   والشاعر السماوي يحاول من خلال أشعاره في غربته أن يقدم شعرا ً مقاوما للإحتلال يقوم على غنائية محببة ، ونظم عمودي وتفعيلي بعيد عن الخطابية ، مثلما هو بعيد عن تقليد شعراء النخبة التي أسلفنا ذكرها ، وهو من خلال ذلك يريد العودة بالشعر إلى عفويته الأولى عبر وضوح ٍ وسهولة ٍتعيدان الإتصال بين الشعر والشعب .فشعراء المقاومة كثر ، أمثال لويس آراغون وبول إيلوار وخير الدين الزركلي ، هؤلاء الذين أججوا روح الثورة لدى شعوبهم وأعطى كل واحد منهم أروع ما عنده في الحب الغنائي .. والسماوي واحد من هؤلاء بل تماهى في ذلك حتى غدت المرأة عنده هي الوطن ، والوطن يطل من عيني المعشوقة ، هو شاعر الحب ، شاعر اليدين الممدودتين إلى الوطن لأنهما إذ تحتضنان الوطن إنما تحتضنان ذات الشاعر التي ذابت متماهية بذات الجماعة .. وها هو يقول :

عَجـِبْت ِلأنَّ بعضا ً من عَـناء
يكـادُ يـغـُصُّ يـا  ليلى بـمــاء ِ
فكيف بعاشِـق ٍ في دار منفى
 يكاد يَغـُص ُّ حتى بالـهـــواء ِ ؟
 كثـيـر ٌ عاشـقو ليلى .. ولكن
قـلـيـل ٌ مَنْ يُـشـابهني بـِدائي
كأني قد حسـبـتُ الكونَ ليلى
وكـلّ الأخــريات بـلا بـهــاء ِ
 وليلى لم تـكن لـيـلى .. ولكنْ
 أكـَنـّي باسمها خبزي ومائي
 وبيتٌ في السماوة وهوطينٌ
 ونخلٌ ينحني فـرط َالحـَـياء ِ
   ولا يخفى أنّ ليلى المحبوبة لدى الشاعر هي الوطن الأم ” العراق ” الذي يهيم به كما هام المجنون بليلاه .. ومع أنه ابتعد عن وطنه ً وحاول أن يُغـَيّـِب صورة وطنه التي تبعث في نفسه الألم والحسرة ، إلآ أنها كانت تتسرب إلى روحه ، وتحتل قلبه .. يقول :
 لأني أحِـبُّـك ِ من دون حَـدّ ِ ..
 لأني تحَدَّيْـتُ فيك ِ التحَـدّي ..
لأنك عندي بساتينُ عشق ٍ
 وأنهارُ وجد ٍ
 وأقمارُ مَـجْـد ِ
 يقولون عني عزيزٌ أذلّ الهوى مقلتيه
 فضاع على ورد ِ ثغر ٍ .. وأشذاء ِ خـَـدّ ِ
 يقولون … لكنْ :
 رضيتُ التحدّي
 لأنك كالشعر والماء ِ
 كالخبز عندي
 
     ويضيف :
 وحاولتُ أنْ لا أحبّك ِ يوما ً
 فخاصمْـتُ عينيك ِ.. طيرَ الكـنـار ِ ..
 سكبْتُ على بيدر ِ العشق ِ مَـقـْـتـي
 وغـَيَّـرْتُ دربي .. ولون القناديل ِ ..
 شكلَ المسـاء ِ ..
 وأجْـراسَ صوتي ..
 وأسْـدلتُ كلَّ السَـتائر ِ كي لا أراك ِ
 وأغلقتُ بابي وشـُبّـاكَ بيتي ..
 وهاجرتُ عن شرفة ٍ أنت ِ فيها
 وعن كلّ شيء ٍ أسَـمِّيه ِ” أنت ِ ” ..
 وقلت انتهيتُ أنا .. وانتهيت ِ ..
 فمن أينَ جئت ِ ؟
 جميع النوافذ مختومة ٌ بالظلام ِ
 فمن أين جئت ِ ؟
    كما أن شاعرنا لم ينسَ دور الزوجة الوفية التي شاركته غربة الوطن والتشرد والتي كانت قد قاسمته لقمة العيش في الوطن .. يقول :
 لِـفاتِـنتي ملامحُ غربتي
ولها ارتعاشُ العشب ِ تحتَ سنابل ِ الأهدابْ
 وفاتنتي تناديني
 سميرَ الياسمين ونادلَ الأحبابْ
 وفاتنتي لها ـ كأبي ـ  أبٌ مُـتَعَـثـّرُ العكــّاز ِ
يحرسُ نخلَ بسـتان ٍ
 ويوقدُ في المساء ِ وجاقه القرويَّ
يطحنُ قهوة ً بالهيل ِ للأصحابْ
   هذا ولم يكن شاعرنا بعيدا ً عما يجري على أرض الوطن الأم من حروب إلى حصار أنشف العروق وأجدب الحرث وأقفر أرض السواد .. يقول :
 تـَعِـبنا يا عـــراقُ .. وأرهـَقـتـْنـا
 رحى الأيـــامِ .. أدمـَـنـّا الحِـدادا
 أرى عشـراً مَـضينَ ولا صباحٌ
 يُـزيـلُ بـنور طـلعَـتِـه ِ السَّــوادا
   ويعود شاعرنا بذاكرته قليلا إلى الوراء ويحاول أن يتذكر ذلك الوطن العظيم لكنّ الحرقة والحزن تغشيانه .. فيقول :
 وطني ؟ يُـقـالُ بأنَّ ليْ وطنا ً فـما
 أبـصرتـُه ُ إلآ وقـَيـدي  في يــدي
 أغـفـوعلى رمح ٍ يُغِـلُّ حشاشـتي
 
وإنِ ِاسْـترَحتُ على وثير ِ المقعَد ِ
   يتذكر من كانوا السبب فيما وصل اليه العراق وما عملوا من تفجير و سرقة للتاريخ وأنّ هذا الظالم من أهل هذا الوطن :
 أعــداؤنا مِــنـّا .. لـهـم فـي حـقـلـنـا
 دغلٌ خبيث الجذر في العشب الندي
 فاضـتْ عـواديـهم عــلى عـُوّادِنــا
 فاسْـتطعَـمَـتْ قـلبَ الأخ ِ المُـتـَوَدِّد
 أيكون عدلا ً سَـبيُ ذات ِ مــروءة ٍ
 ويـصـانُ في وضح النهارالمعتدي ؟
  ويتساءل شاعرنا عما يجري على أرض العراق في هذا الواقع المرير ، يتذكر بغداد الرشيد وما أورثت عبر تاريخها العريق .. بغداد التي كـحَّـل السماوي عيونه بطين دجلتها والمرود كان عـُصيَّـة ً من سعف نخيل بساتينها .. يتساءل :
 هل هـذه بغـدادُ ؟ كـنـتُ عـرفـتـُهـا
 تـأبى انـقـيادا ً لـلـدخــيـل ِ الـعــاق ِ
 ورثت عن المنصورصهوة عزمه
 وعـن الحســيـن ِ مـكارمَ الأخلاق ِ
هذا عراقـك ياعصـورُ كـَبا  بـه ِ
 عَـسَـفٌ وأطـماع ٌ وفأسُ نـفـاق ِ
    وهكذا نر أنّ الكلمات لدى الشاعر العراقي الكبير يحيى السماوي ، مؤثرة بما تحمل من شحنات شعورية قوية ،  فهي تهز الوجدان ، وتـُشـعر الروح بالطمأنينة .
  ويبدو جليا كمبدع  ، تمكنه من انتقاء كلماته ونظمها في نسق موح ٍ ، فالقصيدة في مفهومه ، ليست صورة فوتوغرافية  ننشرها في صحيفة أو كتاب ، بل هي صورة لما يجب أن يكون عليه العالم .. صورة يبدعها الشاعر مستعينا بالبيان عبر محاولة لتجديده وإحياء ما انطفأ منه .
  إن شعر يحيى السماوي يشكل إضافة جديدة للشعر العربي المعاصر ، تنير للأجيال دروب حلّ المعادلة الصعبة بين الإستسلام لتقليد الوافد الجديد أو الركون إلى سحر التراث .
  أخيرا أختتم هذه الإضاءة بهذا النبض المقفى للشاعر يحيى السماوي :
 مَـنْ يـنـقـذ الغريب َ من غـربته
 ومَـنْ يُـعيد  للبصير ِ  الضوءَ ..؟
 منْ يَـسْـتل ُّ  من خاصرتي خناجر الفراقْ ؟
  ذا جسدي يسكن في كامبيرا يا حبيبتي
 لكن روحي تسكن العراقْ

Facebook
Twitter