الهيمنة و(التوحش الجنسي ) في الشرق الأوسط الجديد – الحلقة الثالثةالدكتور فاض الربيعي

الجماعات الإرهابية  جيش عالمي اسسه الاستعمار الجديد لتمزيق المنطقة وتركيع شعوبها 

 

العالم العربي دخل في موجة من التوحش ومانشاهده اليوم ليس سوى افتتاحية الفصل الأول في حكايتها الطويلة

 

التوحش الجنسي أداة من ادوات نظام اردوغان لنشر الذعر الأخلاقي تمهيداً لخلق كانتون تركماني

(إن استراتيجيات ( التوحش الجنسي) باتت استراتيجيات محلية الطابع، تقوم بتفيذها جماعات من مختلف الجنسيات، أي من سائر المقاتلين الأجانب. وهذا وضع فريد في نوعه)
في التجربة الاستعمارية القديمة، تولت الجيوش النظامية بنفسها مهام تنفيذ استراتيجيات (التوحش الجنسي) للسيطرة على السكان المحليين، وتلازمت صورة المستعمر القديم- في الذاكرة التاريخية لمجتمعات الشرق العربي بعد الحربين الأولى والثانية- مع صور مفجعة لانتهاك جنسي واسع النطاق. كان مفهوم انتهاك الكرامة الشخصية للأفراد من الرجال والنساء يتخذ طابعه الأخلاقي الوحيد كمسألة (شرف)اجتماعي مُمزق، وكان الشعور بالمهانة يكاد ينحصر في هذا النطاق الأخلاقي؛ بينما تلاشى أو تضاءل مفهوم ( الوطنية). وكانت أولى النتائج الإجتماعية التي ظهرت نتيجة هذه السياسات، أن السكان المحليين قاموا فعلياً بتغييّر أولوياتهم في الصراع، وبدلاً من تنظيم مقاومة جماعية للجيوش الاستعمارية، بمطالب وطنية وتحرريّة واضحة، جرى الترويج لمطالب ( محلية ) وأخلاقية، سرعان ما لقيت تجاوباً من جيوش الاحتلال. هذا التغييّر في أولويات الصراع مع الاستعمار القديم، حدث خلال حقبة طويلة من التوحش الجنسي الممُنهج. وكانت أعمال الاغتصاب المريعة للنساء ( في شمال إقريقيا بشكل خاص) تجري على نطاق واسع ودون أي رادع. لقد كان ذلك دليلاً آخر من بين أكثر الأدلة قوة على أن الاستعباد الجنسي للجماعات البشرية تحت الاحتلال، كان سلاحاً فعالاً في الهيمنة على الأرض. وأكثر من ذلك، اتضحّ أنه كان من بين أكثر الاسلحة فعالية في إرغام السكان على استبدال أولوياتهم في الصراع. لم يعد الصراع مع الاستعمار يدور في حيز الحرية والهيمنة،أو الاستقلال والتخلص من شروط التبعيّة المفروضة بقوة المعاهدات الاستعمارية؛بل في كيفية وقف (الانتهاك الجنسي).أي أن موضوع الكرامة الوطنية تلاشى تقريباً ليحل محلة مفهوم الكرامة الشخصية المنتهكة .
أمّا في تجربة الاستعمار الجديد، الأنكلو- سكسوني، فقد أنيطت هذه المهام بجماعات محلية مسلحة ، لديها ( مطالب محددّة). وكان على هذه الجماعات أن تنفذ الاستراتيجيات ذاتها،أي القيام بنمط من الاستعباد الجنسي لجماعات محلية اخرى. وفي هذا النطاق وحده، صار بوسع الاستعمار الجديد تحقيق أهدافه بواسطة أدوات محلية ومن دون أن يكون طرفاً في ( التوحش الجنسي). لقد أصبح التوحش مُنتجاً محلياً، تقوم جماعات مهووسة دينيا بإنتاجه كسلاح في مواجهة جماعات أخرى.وحين انطلقت ما تدعى( ثورات الربيع العربي)، فقد أصبح مؤكداً أن العالم العربي برمتّه قد دخل عصر عودة الاستعمار القديم إلى مستعمراته القديمة. وها نحن نشاهد اليوم، كيف عاد المستعمرون القدامى إلى مستعمراتهم وهم يرتدون أردية الاستعمار الجديد: عاد الفرنسيون بقوة إلى شمال إفريقيا بعد تمزيق ( ليبيا) وقطع الطريق نهائياً على الطليان،كما تزّعموا تحالف ( الحرب) على سورية؛ بينما عززّ البريطانيون وجودهم في العراق وفي جنوب اليمن المُطالب بانفصال عدن وحضرموت.
وفي هذا السياق يتعيّن ملاحظة وجود متغيّرين جوهرييّن طبعا بطابعهما عصر الاستعمار الجديد ( الراهن) :
الأول : إن استراتيجيات ( التوحش الجنسي) باتت استراتيجيات محلية الطابع، تقوم بتفيذها جماعات من مختلف الجنسيات، أي من سائر المقاتلين الأجانب. وهذا وضع فريد في نوعه؛ فكيف جرى تكييّف كل هذه الأعداد من المسلحين الأجانب كطرف محلي؟ لقد أعاد الاستعمار الجديد تشكيل الجماعات الإرهابية لا كجماعات محلية تصارع من أجل أهداف وموضوعات داخلية تخصّ هذا البلد دون غيره؛ بل أيضاً كجيش عالمي يضمّ كل الجنسيات، ويحتشد من حول أهداف موحدّة، ولديه استراتيجية واحدة، لكنه يتصرف في الآن ذاته، كجماعة محلية لها حقوق ومطالب (الشيشانيون والطاجيك والصينيون والباكستانيون والتونسيون والسعوديون الخ).إن هؤلاء الأجانب الذين يتولون مهام اغتصاب وسبي وخطف، ثم بيع نساء المجتمعات المحلية، لجماعات محلية أخرى من البلد نفسه، يتصرفون – في شوارع الموصل والرقة ودير الزور- كجماعة محلية لها مطالبها الخاصة وحقوقها؟ وهم أنفسهم من يرفعون المطالب السياسية في سورية والعراق وليبيا؟ هذا الطابع المزدوج في سلوك الجماعات الإرهابية التي تتصرف كجيش عالمي له اهداف عالمية، وفي الوقت ذاته كجماعة محلية موحدّة، هو الذي يدعم حقيقة أن هؤلاء باتوا اليوم ( جماعة محلية) حتى مع تعددّ هوياتهم القومية؟ إن الأفغاني أو الطاجيكي أو الفرنسي الذي يقوم بخطف واغتصاب وبيع نساء المجتعات المحلية في العراق وسورية، مثلاً، لا يتصرف بوصفه عضواً في جبيش إسلامي عالمي؛ وإنما أيضا كطرف محلي له اتصالاته بالقبائل والسكان المحليين؟ إنه ينوب عن المستعمر في تنفيذ استراتيجيات الهيمنة بواسطة التوحش الجنسي.
وكما اتضحّ مؤخراً، فقد جرت عمليات بيع واسعة النطاق لنساء من الموصل لجماعات قبلية عراقية ، وتمّ تصوير العملية كانتصار للقيم الاجتماعية الإنسانية. إن ( تدوير) صناعة التوحش الجنسي، وتحويل منتجاتها إلى (صناعة) محلية ، أيّ منتج فقهي- ديني وثقافي جديد، قابل للتسويق) البيع والشراء) لا يعني أي شئ في قوانين الرأسمالية المتوحشة، سوى خلق مصادر تمويل من عمليات استرقاق ذاتي، تقوم على قاعدة وحيدة، هي قيام جماعة مسلحة بخطف نساء جماعة غير مسلحة، ثم إعادة بيع النساء لجماعات محلية أخرى. لقد نجح الاستعمار الجديد في خلق ثقافة جديدة في مجتمعاتنا، تتأسس على قيم الاسترقاق الذاتي، وبحيث يقوم المجتمع نفسه وبدوافع ( جنسية) باستعباد واسترقاق ذاته، وذلك من خلال خلق وتصنيع جماعات متوحشة تمارس الانتهاك الجنسي، أي أن تقوم جماعة محلية باستعباد جماعة محلية أخرى واستغلالها جنسياً عبر خطف نسائها، وهذا يعني أن العالم العربي قد دخل فعلياً في موجة من التوحش، ليس ما نشاهد اليوم سوى افتتاحية الفصل الأول في حكايتها الطويلة.ولعل مثال النساء الإيزيديات يتضمن كل ما يكفي من دلائل على أن الاسترقاق الذاتي هو جزء من استراتيجيات الهيمنة. وهذا يعني أن يقوم المجتمع باستعباد نفسه لصالح المستعمر، وذلك عبر قيام جماعات محلية مسلحة باسترقاق النساء. لقد جرى فعلياً، تحويل جزء من السكان المحليين إلى شركاء في صناعة ( جنسية). ومؤخراً قام احد وجهاء العشائر العراقية، بشراء عشرات النساء الإيزيديات وتحريرهنّ من العبودية الجنسية. إن مجرد التفكير بوساطة قبلية لتحرير النساء لقاء فدية مالية، يعني تلقائياً، أن المجتمع بات يتقبل استراتيجية الاسترقاق الذاتي؟ إذ كيف يمكن تبرير بيع وشراء النساء من جانب مسلمين مسلحين، لمسلمين آخرين عزل من السلاح؟
الثاني: إعادة مركزة (التوحش الجنسي) داخل حيّز الأقليات العرقية والدينية والثقافية. وهذا ما يكشف عن تحوّل مثير في طبيعة الاستراتيجيات التي يطبقها الاستعمار الجديد. لم يعد المستعمر الجديد بحاجة إلى سياسة انتهاك ضد (كل السكان) ؛ بل ضد الجزء الهش والضعيف داخل النسيج الوطني،وذلك لتعميق درجة تهتك الروابط التاريخية، وصولاً إلى خلق أرضيات جديدة لثقافة الانفصال. ولعل قيام ( داعش ) بانتهاك أعراض الإيزيديات والمسيحيات والتركمانيات، هو دليل بين أدّلة كثيرة على طبيعة هذا التحول الهادف إلى خلق نزعة انفصالية. هذه النزعة تتجسّد اليوم في تبلور اسباب وبواعث لا تتصل بالمطالب الوطنية او الحقوق الثقافية والسياسية لهذه الاقلية أو تلك؛ بل بالرغبة في التخلص من (شركاء في الوطن)بزعم مسؤوليتهم عن ( التوحش الجنسي).وهذا حقيقي، فغالبية من الإيزيديين والمسيحيين وحتى السنة التركمان، يشعرون اليوم، بأنهم لا يستيطعون مواصلة العيش في وطن واحد مع بقية العراقيين، ما دامت الجماعات الإرهابية تقدم نفسها كجماعة مسلمة سنيّة؟
تجلىّ التوحش الجنسي في الحالة العراقية، خلال أحداث سقوط الموصل في شهر إيلول /سبتمبر2014 واتخذ أكثر صورة مأسوية، حين جرى اختطاف- وسبي ثم بيع- عشرات المئات من النساء الإيزيديات في أسواق نخاسة. بيد أن الجزء المسكوت عنه من قصة (التوحش الجنسي) هذه، كان يتعلق باغتصاب النساء التركمانيات. لم يكن هناك أي سبب منطقي، يبرّر هذا الصمت، سوى وجود عامل تركي ضاغط على تنظيم الدولة الإسلامية- داعش. وفي هذا السياق، سعت أنقرة بكل الوسائل، لمنع تسرب أي أنباء تتصل بهذه القصة المحزنة، ذلك أن أنقرة كانت تريد توظيف عمليات( التوحش الجنسي) التي قامت بها داعش ضد النساء التركمانيات، كذريعة يمكن استغلالها – مستقبلاً- لإقامة كانتون تركماني تبدأ حدوده من داخل كركوك وقد لا تتوقف إلا داخل أجزاء من سورية، وبحيث يمكن ( اختلاق) وجود جغرافي لجماعات تركمانية سورية بذريعة الخوف من شركاء الوطن؟ بينما يمكن في هذه المرحلة على الأقل، خلق حالة من الذعر الجماعي الأخلاقي في أوساط الأقلية التركمانية داخل العراق، تمهيداً لاستغلالها في طرح مطلب الكانتون التركماني- ثم الإيزيدي والمسيحي-. على هذا النحو أصبح واضحاً أن التوحش الجنسي كان في الأصل جزء من أدوات الهيمنة الاستعمارية الجديدة في الشرق الأوسط ، ولم يكن مجرد تصرفات طائشة.
إن استهداف الأقليات العرقية والثقافية والدينية من جانب جماعة إسلامية متوحشة، قد لا يبدو مفهوماً في سياق الدعوة الإيديولوجية لإقامة ( الخلافة الإسلامية) لأن بعض هذه الأقليات تنتمي للمذهب السنيّ؟ أي أن الدعاوى الفقهية التي تجيز سبي ( نساء الكفار) لا تجد لها أي سند ديني في حالة ( نساء المؤمنين)؟ والمثير أن التوحش الجنسي ضد النساء التركمانيات، وهو الجزء المسكوت عنه من القصة، خلق بسرعة بيئة جديدة في الوسط الإجتماعي التركماني العراقي؛ إذ رفضت العائلات التركمانية استقبال ( النساء المغتصبات) بعد إطلاق سراحن من جانب تنظيم (الدولة الإسلامية- داعش) أو فرارهن- كما قيل- . وتعالت الصيحات في بعض الأسر مُطالبة نساءها المغتصبات بالانتحار لما لحق بهن من عار؟ وفي ملف أعدته وكالة سبوتنيك الروسية مؤخراً، وتضمن تحليلاً موسعاً عن المختطفين التركمان واستند إلى شهادات نحو 125ألف عائلة تركمانية هاربة من الموصل،تأكد أن لدى (داعش) ما يقرب من 400 من النساء مجهولات الهوية،عدا عن وجود نحو 50 امرأة وفتاة وردت أسماؤهن وعناوين ذويهن في ملف المؤسسة. أما عدد الأطفال التركمان الذين وقعوا بيد عناصر (داعش) فقد احصت الوكالة ما يقرب من 70 طفلاً.
لماذا صمتت أنقرة عن مأساة التركمان في كركوك؟ أليس التوحش الجنسي أداة من أدواتها غير المرئية لنشر الذعر الأخلاقي تمهيداً لخلق كانتون تركماني؟ (يتبع)

Facebook
Twitter