أ.د. رجب بودبوس
طرح هذا السؤال يبدو غريباً لعامة الناس ، وحتي بالنسبة للخواص أيضاً، إذ يبدو لهم أنه ليس هناك أدنى شك أو غموض في تعريف الملكية ، التي ينتظم على أساسها نظام اقتصادي منذ حوالي ثلاثة قرون وإذا استشرنا أي قاموس متوفر ، فسيقول لنا : إنها ملكية شخص طبيعي أو معنوي لشئ من الأشياء ، وباختصار إنها علاقة بين المالك وبين موضوع ملكيته.هكذا مثلاً هذه السيارة هي ملك «سين » من الناس ، وهذه القطعة من الأرض ملكية «صاد» من الناس ..
علاقة الملكية تبدو هكذا واضحة لاتعاني أي غموض أو إبهام ، حتى إن بعضاً يذهب الى جعلها في طبيعة الإنسان ، المساس بها يشوه هذه الطبيعة ، وينتهك حقه الطبيعي في الملكية لكن في العمق المسألة ليست بهذا الوضوح ، وليست كما اعتدنا عليها هكذا عندما ننظر في الشئ نفسه ، موضوع الملكية ، لانجد فيه ما يشير إلى مالك معين ، السيارة ليس فيها ما يشير إلي مالكها ، وإذن يمكن أن يكون أي شخص ، وهكذا قطعة الأرض ، ليس فيها ما يشير إلى مالك معين ، ويمكن أن يكون أي شخص .. ولا أعتقد أن أحداً يعترض على هذا . علاقة الملكية ، التي يتصورها البعض منا واضحة ، تتبدى هكذا غامضة خلاف ظاهرها ، إذ ليس في المالك ما يشير إلى ملكية معينة ، كما ليس في الأشياء ما يشير إلى ملاك معينين يمكن الاعتراض على قولنا هذا ، بأنه من السهل جداً التحقق من هوية مالك السيارة أو من هوية مالك قطعة الأرض ، وإنه عندما يحتج علينا مالك السيارة أو مالك قطعة فإنه يبرز أوراقه والتي يراها برهان ملكيته ، وعندئذ يزول كل غموض الأوراق تشهد على أنه المالك لست أجادل في هذا الوضع الراهن ، وإنما أذهب أبعد من الوضع الراهن . هذه الأوراق التي تبدو دليلاً على الملكية ، لاقيمة لها إلا لإنها صادرة وفق قانون مقبول به اجتماعياً ، بشكل أو بآخر ، وإذن القانون ـ وليس ـ الأوراق ، هو الذي ينص على أن هذه السيارة أو هذه القطعة من الأرض ملك هذا الشخص أو ذاك ، والقانون ليس ، في الغالب إلا تطبيقاً للدستور الذي ينص على حق الملكية0
الملكية هكذا ليست في طبيعة الأشياء ، كما ليست في طبيعة ملاكها ، ومن العبث البحث عنها في طبيعة الأشياء كما في طبيعة الملاك ، إنها في القانون الذي يشرعها(1)هكذا بدون أدنى شك ، حق الملكية هو حق وضعي ، وليس طبيعياً إنه اعتراف الغير بأن هذا الشئ أو ذاك هو ملك هذا الشخص بعينه ، وبناءً على ذلك يمكن أن تتغير هذه العلاقة بين الشئ ومالكه ، وهي فعلاً تتغير ، سيارة الشخص «سين » يمكن أن تنتقل ملكيتها إلى «صاد »، وهكذا قطعة الأرض ، دون أن يمس هذا طبيعة الأشياء أو طبيعة الأشخاص ، لكن كل هذا ، بالطبع ،وفق القانون0
يمكن أن نسأل : وماذا قبل القانون ؟
تاريخياً نحن نعرف أن تشريع القوانين حديث نسبياً ، نسبة إلى عمر الإنسان على هذه الأرض . وعندما لم تكن هناك تشريعات قانونية ، كان انتقال ما يسمى اليوم ملكية ، يجري من يد إلى يد0
لست أنكر أن التشريع القانوني الوضعي يشير ، من حيث المبدإ ، إلى تقدم اجتماعي ، وإلى نشوء مجتمع من النكرات ، لم تعد تحكمه العلاقات الطبيعية ، وإذن في حاجة للتشريع الوضعي ،من أجل تنظيم علاقات أفراده ، وعلاقاتهم بالأشياء . لكن ما يعيب هذا التحول ، في نظري ، وفي التاريخ شواهد على ذلك ، إنه تأسس على أمر واقع ، فيه من استحوذ على الأشياء ، ما قبل أي تشريع قانوني وجعل القانوني هكذا تشريعاً لهذا الاستحواذ ، وليس تصويباً للأمر الواقع . هكذاالمستحوذون على الأشياء ، هم الذين ، بواسطة التشريع القانوني ، أدخلوا تغييراً جوهرياً في علاقة الإنسان بالأشياء : وما كان محايداً بالنسبة للشرعية ، صار شرعياً الملكية كانت ، ما قبل التشريع القانوني ، تتمثل في استخدام الأشياء أو الانتفاع بها . هكذا كانت قطعة الأرض مثلاً تخص من ينتفع بها ، يفقد علاقته بها إذا توقف عن الانتفاع بها0
الملكية هكذا ، كانت علاقة استخدام أو إنتفاع التي تعطي الحق على الشئ المنتفع به أو المستخدم ، صحيح القوة هنا تلعب دورها ، لكن بواسطة التشريع القانوني ، تحولت الملكية إلى حق على الأشياء بصرف النظر عن الانتفاع بها أو استخدامها ، والذي أعطى هكذا الشرعية لما هو أمر واقع ليست القوة غائبة عنه. هكذا مالك الرأسمال ـ أو الأرض ـ له الحق القانوني على رأسماله ، حتى وإن كان لايستخدمه ولا ينتفع به ، أو كان يستخدمه غيره ، وأعطاه ، بالتالي الحق على من يستخدم رأسماله ، والذي جعل الملكية تتجاوز الحق على الأشياء ، إلى الحق على الغير 0 إذن الرأسمالية وليس القانون ، من أدخلا تغييراً جوهرياً في علاقة الإنسان بالأشياء ، عندما مستخدمه القانون ، فصلت الملكية عن استخدامها أو الانتفاع بها .القانون هكذا لم يصنع إلا تشريع وضع اجتماعي سابق عليه .. من ناحية أخرى فإن مبدأ الانتفاع أو الاستخدام ، الساري بالمجتمع الطبيعي ، حتى وإن لعبت فيه القوة دوراً كان يحد من الاستحواذ على الأشياء باعتبارأن الإنسان لايمكنه الاستحواذ إلا على ما يمكنه استخدامه أو الانتفاع به هذه الاستحالة لم تكن قانونية ، وإنما عملية . ما يزيد عن ذلك ليس بإمكانه ولا يملك حق منع الغير من استخدامه أو من الانتفاع به ، إضافة إلى أن منع الغير ، فرضاً ، لايفيده ، وربما أيضاً إنه لم يفكر في ذلك ، استحواذه على ما يحتاج إليه ، وليس لديه ، في الغالب ، مبرر أو دافع ، لكي يستحوذ على ما ليس في حاجة إليه ، لكن عندما جرى الفصل بين الملكية وبين الانتفاع أو الاستخدام ، وتحولت الملكية إلى حق ، على يد الرأسمالية ، صار في الإمكان ، استناداً إلى هذا الحق المزعوم ، منع الغير من الإستخدام أو من الانتفاع بهذا الشئ أو ذاك ، بحجة إنه ملكية خاصة ، رغم إنه يفيض عن حاجة الملاك . فمن أهم نتائج هذا الفصل القانوني ، بين الملكية وبين الانتفاع أو الاستخدام ، انقسام المجتمع إلى طبقتين : طبقة الملاك وطبقة غير الملاك ، وأعطى الحق لطبقة الملاك على طبقة غير الملاك ، القوة التي ربما كان لها دور في مرحلة الاستحواذ من أجل الانتفاع أو الاستخدام ، صارت شرعية 0
الملكية هكذا صارت تفيض عن الانتفاع بها أو عن استخدامها ، مما أنتج محرومين من الملكية هم في حاجة للانتفاع بها ملاكاً تفيض ملكيتهم عن حاجتهم استخداماً أو انتفاعاً ، ليسوا إلا حراساً لملكية لاينتفعون بها . صارت تعطيهم الحق على المحرومين منها .. من نتائج هذا الفصل ـ أيضاً ـ اقتصادياً ، وجود ملكيات غير منتفع بها وغير مستخدمة ، لأنها تفيض عن حاجة ملاكها ، هكذا ـ مثلاً ـ في إحد بلدان أمريكا اللاتينية ، هناك أراضٍ زراعية شاسعة مملوكة لقلة ، وغير مستغلة ، رغم وفرة المياه . فإن كثرة من الناس في هذا البلد جياع0 هكذا بصرف النظر عن مطلب العدالة الاجتماعية ، يترتب عن هذا النمط من الملكية تعطيل موارد اقتصادية مهمة جداً 0 إذن لما كانت الملكية ليست في طبيعة الملاك ، كما ليست في طبيعة الأشياء ، والدليل على ذلك وجود من لا يملكون ، وأيضاً تغير الأشياء بالنسبة لنفس المالك ، وتغير الملاك بالنسبة لنفس الأشياء إنها إذن علاقة اجتماعية وضعية ، عندئذ أين نجدد حق الملكية ؟0
يجب أولاً أن نميز بين الملكية كحق وبين الملكية كفعل على مستوى الملكية كفعل مازال مبدأ الاستحواذ سارياً ، أما الملكية كحق ، فهي حق مجرد وصوري ، ليس له وجود إلا في ذهن من تصوروه ، أو في النصوص القانونية التي وضعوها0
هكذا نجد تمييزاً بين حق الملكية الصوري ، وبين الملكية الفعلية ، الذي يجعل من الملكية الفعلية شرط التمتع بحق الملكية ، أما حق الملكية نفسه ، المكفول دستورياً ، فإنه لا يرتب ملكية فعلية . هكذا يقول الدستور : إن الملكية حق لكل إنسان ، لكن يجب أن نضيف ما يتجاهله النص ، شريطة بالطبع أن يكون مالكاً ، هذا يعني أن الحق مكفول صورياً ، لكن التمتع به فعلاً يشترط الملكية . هكذا بالنسبة لمن ليس مالكاً فعلاً ، يكون حق الملكية محض إمكانية صورية ، من حق كل إنسان أن يملك لكن عليه أولاً أن يملك ، لكي يتمتع بهذا الحق ، هذا الشرط المسكوت عنه ، من ناحية يعطل الحق الدستوري ، ويجعله صورياً ، والملكية الفعلية تختلف عن حق الملكية الصوري ، اختلاف الفعل عن الإمكانية ، لكن لكي تتحول الإمكانية إلى فعل تتطلب وسائل ، وهذه مشروطة بالملكية كفعل ، مما يقود إلى دور منطقي . الملكية الفعلية هكذا ظلت استحواذية ، تلعب فيها القوة دوراً مهما ، لايطالها القانون ، وهذا ما يطلق عليه في الرأسمالية حرية السوق ، وحرية المبادرة0
من ناحية أخرى ، يطرح السؤال عن حاجة الملاك فعلاً لقانون يعطيهم الحق فيما هو أمر واقع 0
جواب هذا السؤال يكشف أصل حق الملكية ، وهو الملكية الفعلية أو الاستحواذ السابق والتالي على حق الملكية ، هكذا أصل حق الملكية الدستوري ، هو الملكية الفعلية أو الاستحواذ السابق والتالي على نشوء حق الملكية الدستوري ، ولما كان هذا الاستحواذ ، أنجزه وينجزه قلة من المجتمع ، ولأنه ليس له أساس طبيعي يعطيه الشرعية . وللحيلولة دون أن الاستحواذ يبرر الاستحواذ ، فإن هذه القلة سعت لتشريع استحواذها ، هكذا صورية حق الملكية الدستوري يخفي أصل هذا الحق ، يجعله عاماً ، ويعطي شرعية دستورية للملكية الفعلية 0 عندئذ لكل إنسان الحق الصوري في الملكية ، ولبعض الناس ملكية فعلية .. لقد اعتدنا على هذه الازدواجية ، بين الملكية كحق صوري ، وبين الملكية الفعلية . حتى إننا لا نكاد آن نميز بينهما . مع ذلك كثرة من الناس يقبلون بشرعية الملكية الفعلية ، ليس قناعة بشرعيتها ، وإنما على أمل أو وهم أن يملكوا مستقبلاً . هذا الوهم الذي يروج له مرتزقة الرأسمالية ، هو الذي يبقي على الرأسمالية 0 البعض يمكن أن يحتج علينا ، بأن في هذا طعنا في القانون ، و في الدستور الذي يكفل حق الملكية لكن بدورنا يمكن أن نسأل هولاء : ما جدوى حق وسائل التمتع به ليست مكفولة ؟ هكذا حق الملكية ككل حقوق الإنسان ، كفالته الدستورية لاتعني التمتع به فعلياً 0
من ناحية أخرى التحجج بالشرعية القانونية أو حتى الدستورية ، لا يكفي إذ ليس القانون كما ليس الدستور في ذاته مصدر الشرعية الأساس ، هكذا الدستور الذي منه يستمد القانون ، يمكن أن يطرح مسألة شرعيته ، ولا يمنح الدستور شرعية إلا إذا كان هو نفسه شرعياً 0ان المهم في الدستور ليس الدستور نفسه ، وإنما من وضعه ، هكذا القلة التي تضع دستوراً تجعله بالضرورة يشرع ملكيتها الفعلية ، لكن هذا يطعن في الدستور وفي شرعية الملكية التي يشرعها .. لكي يكون الدستور شرعياً حقاً ، يجب أن يصنعه كل الناس ، وليس بعضهم ، في نظام نخبه تحكمه الملكية الفعلية 0هكذا إذا تجاوزنا ـ ولو نظرياً ـ الوضع الدستوري الحالي ، الذي يفصل بين حق الملكية ، وبين الانتفاع بها أو استخدامها ، والذي يرتبط بنشوء الرأسمالية ، ومن ثم تشريعها لما استحوذت و تستحوذ عليه فعلياً ، فإننا نكتشف أن مبرر الملكية الشرعي وأساسها الاجتماعي ، هو الانتفاع أو الاستخدام0 الرأسماليون في كل مكان يدركون جيداً أن الملكية في مفهومها الحالي ، ليست إلا نصاً في دستور ، وضع أو يوضع في ظروف اجتماعية تاريخية معينة ، على خلفية اختلال توازن اجتماعي ، إذن يمكن تغييره ، وربما لهذا السبب يحرص أنصار الرأسمالية على ترويج أن الملكية حق طبيعي ، وإذن جزء مهم من حقوق الإنسان لكن إذا كانت ـ جدلاًـ حقاً طبيعياً ، وجزءاً مهما من حقوق الإنسان ، فلماذا لا يتمتع بها كل إنسان ؟ أليس الحرمان من الملكية عندئذ انتهاكاً لطبيعة الإنسان وحقوقه لايعالجه الاعتراف الصوري بهذا الحق ؟