ومع مجيء ادارة اوباما، الذي تعهد بإنهاء “الحرب الغبية” كما اسماها والتركيز على الازمة الاقتصادية، تصاعدت فرص المالكي بالاستيلاء على السلطة، فبدأ حملة تدمير الدولة العراقية، حيث اقال القادة المهنيين واستبدلهم بموالين له شخصيا، وارغم كبير القضاة في العراق على منع بعض منافسيه من المشاركة في انتخابات مارس 2010، وبعد اعلان النتائج وفشل المالكي في تكوين ائتلاف معتدل يشمل كل الجماعات العرقية والطائفية الرئيسية، اصدر القاضي الحاكم قرارا منح المالكي اول فرصة لتشكيل الحكومة، ما ادى الى تصاعد التوتر واعمال العنف.
يقول الخضيري: حدث ذلك في ظل فراغ القيادة في السفارة الامريكية في بغداد لعدم وجود السفير لمدة شهرين، وكنت انا حينها في مهمة عبر عواصم الشرق الاوسط مع الرئيس الجديد للقيادة المركزية الامريكية “بترايوس”، وقد كانت التقارير التي ترد من مسؤولين امريكيين وعراقيين في بغداد مثيرة للقلق تتحدث عن تراجع الروح المعنوية للقوات الامريكية وانهيار العلاقات بين القيادة الامريكية الدبلوماسية والعسكرية على عكس ما كانت عليه في فترة كروكر – بترايوس، مما ادى الى نمو قوة الدولة البوليسية للمالكي يوما بعد يوم.
في عام 2010 شكك المالكي في نزاهة الانتخابات واتهم الولايات المتحدة وبريطانيا والامم المتحدة والمملكة العربية السعودية بتزويرها، ومع تصاعد الازمة السياسية بين قادة الاحزاب، عدت الى العراق بناء على طلب السفير الجديد للولايات المتحدة “جيمس جيفري” للتوسط بين القيادات العراقية، وادركت ان جزءا كبيرا من النجاحات التي قدمتها القوات الامريكية قد تبدد على يد المالكي وزعماء عراقيين آخرين، حيث تولدت انقسامات كبيرة بين الاحزاب، كاعتراض الاكراد على بقاء اجزاء من مناطقهم التي تعرض مئات الآلاف من سكانها الى القتل منذ عام 1980 تابعة الى العراق، وشعور الكتل السنية بالغضب من ان يطلب منهم التنازل عن رئاسة الوزراء بعد ان تغلبوا على الانقسامات الداخلية بينهم وشكلوا ائتلافا عراقيا علمانيا، حتى زعماء الشيعة الاسلاميين عبروا عن عدم الراحة لحكم المالكي واطلقوا عليه علنا لقب “طاغية”، والاسوأ من ذلك كله لم يعد ينظر الى الولايات المتحدة على انها وسيط نزيه.
ادركت حينها ان من ساعدت على إحضاره الى السلطة عام 2006 يجب ان يرحل والا سوف يؤثر بقاؤه على المصالح الحيوية للولايات المتحدة خاصة ان اميركا والعراق فقدوا آلاف الارواح، فنحن في حاجة الى زعيم يفكر في اعادة بناء العراق وصيانة العملية الدستورية والعمل على تطوير اقتصاد البلد،, ولسنا بحاجة الى طموحات الرجل الواحد او الحزب الواحد.
وفي محادثات اجريتها مع اعضاء في البيت الابيض اقترحت ان يكون “عادل عبد المهدي” بديلا للمالكي حيث انه بعثي سابق وذو خلفية اسلامية معتدلة وثقافة فرنسية، ويتميز بعلاقات جيدة مع الشيعة والسنة والاكراد وكذلك مع تركيا وايران والمملكة العربية السعودية.
و في 1 سبتمبر 2010، عند حضور نائب الرئيس بايدن حفل رحيل الجنرال راي اوديرنو ووصول الجنرال لويد أوستن قائدا للقوات الأميركية. في تلك الليلة، واثناء حفل عشاء اقيم في مقر إقامة السفير بحضور الجنرالات وكبار مسؤولي السفارة، قدمت نبذة وجيزة عن موقفي ضد سياسة المالكي وضرورة احترام العملية الدستورية. ولكن نائب الرئيس “بايدن” قال ان المالكي هو الخيار الوحيد.
يقول الخضيري: لم أكن المسؤول الوحيد الذي وقف ضد استمرار أبو إسراء. بل سعى مسؤولون بينهم نائب السفير الامريكي روبرت فورد، أوديرنو، السفير البريطاني السير جون جنكينز والسفير التركي مراد أوتشيليك في الحث ضد المالكي، ووصلنا الى طريق مسدود في تضارب الآراء بين مؤيدين ومعترضين، خاصة وان القادة العراقيين كانوا غير قادرين على الاتفاق حول بديل للمالكي .
وفي غضون ايام من زيارة بايدن الى العراق استدعى الجنرال قاسم سليماني رئيس فيلق القدس التابع الى الحرس الثوري الايراني، استدعى زعماء العراق، كمحاولة للتعاون مع الحكومة الامريكية في حل الازمة العراقية. واقنع سليماني القادة ببقاء المالكي رئيسا للوزراء، وطلباني ذو العلاقات الطويلة العقود مع ايران رئيسا للجمهورية، والاهم من ذلك بذل الجهود لمغادرة الجيش الامريكي مع نهاية عام 2011، مؤكدا على ضرورة استمرار التوافق الايراني – العراقي، معللا ذلك بأن الامريكيين سوف يغادرون يوما، لكن ايران ستبقى دائما جارة للعراق (وفق تصريحات لمسؤول عراقي سابق). واشار سليماني الى ان القادة العراقيين الذين تعاونوا معه سوف يتلقون غطاء سياسيا ودعما متواصلا، اما الذين اتحدوا ضد الجمهورية الاسلامية سوف يعانون عواقب وخيمة اكثر من غيرهم.
كنت مصمما على عدم السماح للجنرال الإيراني الذي كان قد قتل من القوات الأمريكية ما لا يعد ولا يحصى ان يملي نهاية اللعبة بالنسبة للولايات المتحدة في العراق، و بحلول شهر أكتوبر، حاولت اقناع السفير جيفري باتخاذ خطوات لتفادي هذه النتيجة، واشرت الى ان ايران عازمة على إجبار الولايات المتحدة على الخروج من العراق، ودعم حكومة في بغداد برئاسة المالكي، مما سيؤدي بالتأكيد إلى حرب أهلية أخرى وربما الى صراع إقليمي شامل. يمكن تجنب هذا إذا جابهنا مقترحات إيران من خلال تشكيل حكومة وحدة وطنية شاملة ودعمنا بديلا مثل عبد المهدي، لم انكر ان الامر سيكون صعبا للغاية، لكن مع 50 الف جندي امريكي لا يزالون على الأرض، تبقى الولايات المتحدة لاعبا قويا، وقد استخدمت كل صلاحياتي السياسية من اجل ترتيب لقاء لجيفري وانتوني بلينكين، مستشار الامن القومي واحد كبار مساعدي بايدن مع احد مراجع الشيعة الكبار. وقد صرح المرجع الشيعي بلغة واضحة انه يعتقد بقدرة اياد علاوي الذي شغل منصب رئيس وزراء مؤقت عام 2004- 2005 وعبد المهدي على توحيد العراق، وان حزب الدعوة بقيادة المالكي سيقود البلد الى الخراب.
لكن مع كل هذه المحاولات، وبحلول نوفمبر كان البيت الابيض قد استقر على دعم المالكي وتم تجاهل العملية الدستورية ونتائج الانتخابات، مع محاولات ابعاد طالباني وتثبيت علاوي كمحاولة ترضية للائتلاف العراقي.
ويتابع الخضيري: وفي اليوم التالي كررنا انا وزملائي في السفارة الامريكية مرة اخرى تحذير الادارة الامريكية من ارتكاب خطأ ذي ابعاد تاريخية، وذكرت شخصيا ان المالكي سوف يستمر في توطيد سلطته بعمليات التطهير السياسي ضد خصومه، وان طلباني لن يتنحى عن منصبه بعد عقود من الكفاح، وان السنة سوف يثورون من جديد اذا رأوا بأننا لم نقف الى جانبهم، خاصة بعد هزمهم لتنظيم لقاعدة من خلال عمليات الصحوة، اِلّا ان انصار المالكي في البيت الابيض التزموا بموقفهم في دعمه، وتم ايفادي من قبل السفير الامريكي الى الاردن للقاء مجلس كبار زعماء السنة في العراق، حاملا رسالة مضمونها وجوب انضمامهم الى حكومة المالكي، لكن الرد جاء (وكما توقعت)، بقبول الانضمام الى الحكومة في بغداد لكنهم لن يسمحوا ان يُحكم العراق من قبل ايران ووكلائها، ولن يعيشوا تحت حكم رجال الدين الشيعة، او يقبلوا بالتهميش والمعاملة على اساس انهم مواطنين درجة ثانية، وحذروا من العودة الى حمل السلاح اذا لم تتحقق مطالبهم، كذلك لم يوافق طالباني على التنحي، بل لجأ الى ايران لدعمه في الحفاظ على منصبه، ومن جهة اخرى بدأ المالكي بتشكيل حكومته التي ضمت رجالا مفضلين لدى الحكومة الايرانية، كهادي العامري قائد فيلق بدر ، وخضير الخزاعي، وابو مهدي المهندس، ولم يعين المالكي وزيرا دائما للداخلية والدفاع ولا رئيسا للمخابرات بل تولى تلك المناصب بنفسه، ونبذ اغلب الوعود التي قطعها بتقاسم السلطة مع خصومه السياسيين.
ويضيف: وفي ديسمبر من عام 2011، وبمجرد مغادرة القوات الامريكية، بعد ان رفض تجديد الاتفاقية الامنية التي تتيح بقاء القوات الامريكية في العراق، اسس المالكي دولة بوليسية وسعى الى اعتقال طارق الهاشمي الذي حكم عليه بالاعدام غيابيا بعد فراره من بغداد، وكذلك رافع العيساوي.
اضافة الى ان المالكي لم يف بالتعهدات التي ادلى بها الى الولايات المتحدة، فلم يتخل عن قوات سوات العراقية المتدربة تحت اشراف الولايات المتحدة بل جعل منها حرسا تابعا له بحجة مكافحة الارهاب. ولم يعمل على تفكيك المخابرات ومقرات السجون والتعذيب السرية، ولم يصدر قرارات العفو الشاملة التي من شأنها المساعدة في اخماد الاضطرابات من قبل الفصائل السنية والشيعية.
يقول الخضيري: باختصار، تحول العراق الى رجل واحد (نوري المالكي) وحزب واحد (الدعوة) يشبه الى حد كبير من الرجل الواحد (صدام حسين) والحزب الواحد (حزب البعث)، لكن صدام لم يتخذ من عدو اميركا “ايران” حليفا استراتيجيا له، رغم ان اميركا لم تنفق ترليون دولار في دعمه، ولاجل تحقيق الديمقراطية التي لم يتضح منها شيء.
ويقول الخضيري انه قدم طلب الاستقالة في 31 ديسمبر 2010 احتجاجا على ما حصل، وانه شعر بالالتزام الاخلاقي والمدني الذي يحتم عليه سرد التفاصيل حول ما أدى الى الوصول للمأزق الحالي.
واضاف: ان الازمة التي تجتاح العراق والشرق الاوسط كانت متوقعة وكان بالامكان الوقاية منها، لكن عدم استجابة الادارة الامريكية وخاصة من قبل انصار المالكي اجج الصراع في العراق والرئيس اوباما اليوم يوسع دائرة الصراع الذي بدأه الرئيس غير الحكيم بوش.
ويختم الخضيري حديثه بالقول: ومن المفارقات، ان هؤلاء المسؤولين الذين يتدافعون الآن لإنقاذ العراق، هم نفسهم الذين يرفضون ادانة انتهاكات المالكي وتزويده بالأسلحة التي يمكن ان يستخدمها لشن حرب ضد خصومه السياسيين.