صاحب الامتياز
رئيس التحرير
عبدالرضا الحميد

المؤلف الوهمي

حمزة الحسن

 

كما في الشأن السياسي حيث الخلاف يتمحور حول الشخوص لا على البرامج السياسية والاقتصادية ومنهج بناء الدولة، كذلك في الشأن الأدبي لا تدور الخلافات حول النصوص الادبية والفنية والفكرية أو طرق مناقشتها عدا بعض الحالات العابرة بل تتمحور الخلافات حول الشخوص المنتجة للنصوص كما لو أننا لم نسمع حتى اليوم بالمقولات النقدية التي استهلكها الفكر النقدي في موت المؤلف بعد العمل ـ النص فعل من أفعال الخيال وهو يحمل صفة العمل الذهني ـ ولا بقوانين علم النص على يد كبار النقاد في العالم أو حتى بالأمثال الشعبية من قبيل كل “شاة برجلها معلقة” بتعبير وكيع بن سلمه، اذا سلّمنا ان النص معلق لوحده في فضاء اللغة وهو وحده القادر على خوض مغامرة الجدارة كما هو حال النصوص السومرية والبابلية المجهولة المصدر والمؤلف والتي تقف بثبات في وجه حركة الزمن.

 

عكس هذه المبادئ النقدية المدرسية يبدو ان المؤلف العراقي وحده معلق من رجليه وليست النصوص وان حكاية موت المؤلف بعد النص الادبي تفسر على المستوى العراقي، وليس على المستوى البنيوي النقدي، باغتيال المؤلف، كما هو الأمر في العمل السياسي، حيث تنتشر ثقافة الرابح والخاسر، والمنتصر والمهزوم، وهي ثقافة الوعي المحارب العاجز عن بناء مساحات مرنة للاختلاف البناء، الذي لا يتعامل مع الثقافة والسياسة والنصوص والفكر كمنتَجات بل التعامل مع المنتِجين وهو أمر لا يمارس، من باب السخرية، مع النصوص الغربية التي تُعامل، عراقياً، بتوقير  بصرف النظر عن المؤلفين كما لو ان الوعي السائد يضع  النص خارج حقل الجدل والنقاش والسؤال الثقافي والنقدي كما يضع السياسي البرنامج والمنهاج خارج حقل الاختلاف ويتم التركيز حول طبيعة الغريم السياسي وحده.

 

عملية اغتيال المؤلف قبل العمل وبعده توفر فرصة نادرة لكل من يريد الهروب من الابواب الخلفية من كل أنواع العجز النقدي والمعرفي والفكري والثقافي لأن هذا الاغتيال( كما هو شأن الاغتيال السياسي) لا يؤسس جدارة، أولا، بدون نصوص واضحة ناضجة، متينة،وثانيا، لا يحتاج الى كفاءة ومعرفة وموهبة وثقافة نقدية أو موسوعية بل يحتاج الى رصاصتين واحدة تطلق على رأس الغريم السياسي وأخرى على رأس الغريم الادبي لكي يسود الصمت والامتثال والخرس والتشابه ويُلغي الاختلاف.

 

اذا كان الاول( السياسي) يهرب من جريمته وتقيد ضد مجهول، فلا يجد الثاني( الثقافي) نفسه مضطرا الى الهرب من جريمته الثقافية والادبية بل على العكس الى الاندماج في مناخ متقبل وحاضن وراع ومتفهم ومشجع مما يعطي هذه الجرائم طابع العادي والمألوف، اي تطبيع الجريمة.

 

المصدر واحد في الحالتين رغم الشكل العام المختلف وهو طبيعة البنية العقلية المتوارثة عبر تاريخ بلا قطائع ولا مراجعات وان حصلت محاولات للقطع مع الماضي أو مراجعته، نقديا، يكون الاغتيال الجسدي هو المرشح الأول أو سلسلة أعمال عقابية معروفة عبر التاريخ ـ النفي، الحرق، الطرد، النبذ، التشهير، العزل، السجن الخ اجراءات العقاب ومؤسساته التي تعرض لها ميشيل فوكو  بافراط ـ  وهذه البنية العقلية قائمة على تصور ذهني حيازي امتلاكي لكل الاشياء من الخارج الى الداخل( لأن الداخل فارغ وشره) اي تحويل الحياة الى ساحة صراع وتنافس بلا تسويات ـ النصر أو الموت ـ لأن التسويات نتاج العقل المنطقي المرن المنفتح، أما العقل المغلق على نفسه المبني على فكرة الغنيمة والصيد والانتهاز والقفز والخطف والحيازة والاستئثار والتفرد فهو عقل حربي هجومي مؤسس على مبادئ زائفة ترى في التسوية عاراً، وفي التنازل والتراجع عن الخطأ خزياً، وفي فشل المشروع هزيمةً، وفي الاعتراف بالاخطاء جبناً مع ان الشجاعة الحقيقية تتسم بالانفتاح والعذوبة والعفوية والبساطة والتلقائية والتفتح الهادئ حتى تصل في رقتها الى مستوى الجمال غير المدرك لنفسه كالأزهار البرية ونوم الأطفال الوادع وضوء النجوم وفرح الخيول في البراري.

 

ان عملية تحقيق الهدف السياسي( والمصيبة الأدبي) لا تتحقق، في الوعي النقدي الشقي والمحارب والمجروح، من خلال التبادل المشترك في المصالح (لذة النص ـ السعادة ـ العدل ـ الضمير ـ الانصاف ـ الفرح العام، مصلحة ايضا) وتقاسم الأهداف وتحليل النصوص والبرامج من خلال لعبة نقدية أو سياسية، بل من خلال نزعة شرهة في الامتلاك وهي نزعة تقود الى سحق الآخر وتحويله ليس الى موضوع صراع أو اختلاف بل تفكيكه(وهي تفكيكية بامتياز لا علاقة لها بهذا المفهوم المعروف) الى عناصره العضوية الجسدية في نوع من التشفي النيكروفيلي التدميري عن طريق السلاح وان لم يتوفر عن طريق الهتك والاستباحة.

 

هذا النزوع المرضي الوحشي الذي غالبا ما يجري أمام أنظار الرأي العام المروّض والمطبّع على هذه العاهات المجنونة والشاذة صار يقترب من العمل الأدبي ومن العمل الفكري والفني ومن الاطفال والحدائق والحقول كما لو ان الحدود الفاصلة بين السياسة والثقافة في العراق لم تعد قائمة بعد أن زحفت الوحشية على كل شيء في نوع من الاكتساح الشبيه بغزو جراد للحقول، بل حتى لم تعد فكرة النصر القذرة على المختلفين مبنية كما في بعض المراحل على الاستحواذ على السلطة كغنيمة أو على الثقافة كفرصة بل على فكرة الابادة والاستباحة في تطور منطقي وطبيعي ولم تعد الاستباحة ـ بعد تكرارها المرئي ـ تثير رعب أو تقزز أو دهشة غالبية الناس لأنها فرضت نفسها كصورة نهائية ولا حدود خارجها، بل تمأسست بقوة السلاح والمال والاتباع، وصار كثيرون يحلمون ليس في العثور على مواقعهم الطبيعية السابقة أو على أدوارهم الوظيفية والثقافية والأخلاقية التي أعدوا أنفسهم لها بل صار الهم هو النجاة، وفكرة النجاة الاستحواذية وتهديدات الحياة والموت الحدية تدفع الانسان الى الاحتماء تحت اي عنوان كما يحتمي الانسان الأول من الأخطار المباشرة في اللجوء الى الكهف ـ الشكل الرمزي المحوّر للرحم ـ أو الاغماء لكي يقطع الاتصال مع الحياة والخطر والمطاردة أو الهرب والتحاشي أو الصمت.

 

هذا هو واقع اليوم سياسيا وثقافيا واجتماعيا حتى لو منح البعض بعض الزخارف على موت مستمر وفي هذه الحالة يصبح الحديث عن اغتيال المؤلف نوعاً من البطر أمام الاغتيال العام لكل شيء. لم يعد المؤلف يشكل سلطة لا على نصه ولا على حياته ولا على حلمه لأن كل ذلك لا قيمة له أمام( المؤلف الوهمي والحقيقي) في السلطة السياسية وفي غيرها، في الثقافة وفي الفكر، في المجتمع وفي دور العبادة، في الجامعة وفي الجريدة، وهذا المؤلف الوهمي والحقيقي هو السياسي ـ الكاتب الوحيد الباقي والمتجول والقاضي والناقد والعارف والدفان والمرجع والمصدر والقرار وهو يعرف ما في الصدور وما في النصوص وما تخفي القلوب لأنه حل محل الرب في الحساب والعقاب الأرضي وأسس سلطته على الأرض وله أرشيفه الخاص عن كل شيء وكل حدث وكل زمن وله ملائكته أو مصادره الخاصة التي تنقل له ما في الأسرّة والسرائر والنصوص وهو لن يبوح بها بناء على الخصوصية لأنها مثله هو وهم وهراء في زمن عراقي صار فيه الهراء( عكس قوانين ماركس وغيره) سلعة تُنتج وتباع ولها حجم ووزن وطريقة نقل ومنتِج وقيمة وعمل مشغول وسعر… والخ… وعلى عناد كل علماء الاقتصاد وفلاسفته ومفكريه.

 

على عكس المؤلف الواقعي والجدي والمستغرق في عالمه وابحاثه وكشوفاته ومنافيه المتكاثرة من منافي اللغة الى منافي الجسد الذي نُفي عنه بالحروب والسياسة الى منافي المكان، نجد أن المؤلف الوهمي والحقيقي ـ مفارقة؟ ـ في الثقافة وفي السياسة، في كوميديا الاقنعة واللغة، والموسوس بفكرة الاستحواذ على كل شيء أو السحق، فكرة النصر التام أو الموت التام، من خلال سلطة الكاتم أو سلطة الهتك، أو عصاب المُلكية، ونزعة الاستباحة،لم يعد، مع الوقت، شخصاً، بل ظاهرة سياسية ثقافية أدبية غير خاضعة ليس للحساب فحسب بل غير خاضعة للتحليل النقدي في تطبيع متدرج للوقاحة، ولم (تعد المعرفة عرسا ـ رولان بارت) بل صارت ثكنة ومؤسسة سجنية وصارت الحقيقة لا تبحث في مراكز أبحاث أو مختبرات أو في التأمل والمعاناة بل صارت تُركَّب حسب المزاج والاهواء وهيستريا السحق.

 

لم يعد المؤلف الوهمي في السياسة وفي الثقافة يحتاج الى نقد النصوص (والبرامج) بعد موت المؤلف الأصلي لأن موت المؤلف الرمزي لا ينتج دماً وشهوةً وشبعاً وارتواءً بل المطلوب هو موت المؤلف الجسدي ولم تعد الكتابة كما في عالم الأسوياء بحاجة الى تأمل ذاتها( كما عند شاتوبريان) بل بحاجة الى تأمل قتلاها، لأن النصر السياسي والثقافي والديني والمعرفي والعلمي والاجتماعي والحربي في الوعي الشقي والمحارب والجبان والمغلف بفكرة شجاعة زائفة ملفقة، كما يقول تاريخ الحروب والفلسفة والسياسة والآثار والأدب وعلم النفس، يقوم على نزوع مرضي فردي واجتماعي المنشأ وتاريخي النشأة شبيه بسعادة القتلة وهم يحتفلون، رقصاً، حول جثث القتلى أو السجناء أو الأسرى، لأن هذه السعادة الوحشية (خليط من التشفي واللذة والمتعة والزهو والسرور والشبق والخبل والهوس المبرقع) لا تعثر على تفوقها الا من خلال رؤية الآخرين في وضعية الركوع أو الاستسلام أو الموت، ولا ترى في الحياة شيئاً جميلاً ابدا لأن المنظار الأسود، البنية والعقلية والاطار والوعي الذاتي، لا يعكس سوى عالم منحرف موغل في النجاسة.

 

Facebook
Twitter