عالية محمد حسن
ان كثير من الامم المغلوبة على امرها افاقت من سباتها ، واخذت تشعر بكيانها الخاص ، وصارت تسعى الى تدعيم هذه الكيان بالحكم الذاتي اولا ، وبالأستقلال التام ثانيا ً على حين ان السلطنات التي كانت قائمة قبلا ً ، اخذت تتقلص شيئا فشيئا ، الى ان اندرس معظمها ، تاركا محله لدول قومية عديدة . وبدئت هذه القوميات تختلف وتتنازع ، وظهرت من جراء ذلك مسائل الاقليات وما يتبعها من المشاكل والاختلافات واذا استعرضنا سير هذه الانقلابات ، وجدنا ان جماعات من الناس اعتبرت نفسها من قومية واحدة ، واخذ افرادها يشعرون بانهم ابناء امة واحدة متميزة من الامم الاخرى ، وصاروا ينزعون الى الاستقلال عنها .
ماهي العناصر التي تكون القومية وتؤلف الامة ؟ ا ن اول مايخطر على البال ويلفت النظر في هذه الصدد هو وحدة الاصل والمنشأ . يظن الناس عادة ان كل امة من الامم تنحدر من اصل واحد ، ويزعمون ان جميع افراد الامة الواحدة يكونون بمثابة الاشقاء المنحدرين من صلب اب واحد . ولذلك نجدهم يكررون في كل مناسبة كثيرا ً من المتاعب الدالة على هذا الزعم كقولهم اجدادنا ، أبائنا ، اخواننا .. غير ان هذه الظن لا يستند الى اساس صحيح ، لأن جميع الابحاث العلمية ، المستمدة من حقائق التاريخ ومن مكتشفات علم الانسان ومكتسبات علم الاقوام ، لاتترك مجالا ً للشك في انه لايوجد على وجه البسيطة امة تنحدر من اصل واحد فعلا ً ، ولاتوجد على الارض امة خالصة الدم تماما ً . فأن جميع الامم التي نعرفها الان قد تكونت من تداخل عشرات العروق والاجناس ، في مختلف ادوار التاريخ ، حتى ان الاجناس التي عاشت في القرون المتقدمة على ادوار التاريخ ايضا متخالطة ومتداخلة جدا . انني اشبه الامم من هذه الوجهة بالأنهر العظيمة . فمن المعلوم ان كل نهر من الانهر تجري فيه مياه اتت من منابع ومصادر وروافد مختلفة . والانهر الكبيرة تكون كثيرة المنابع وعديدة الروافد بوجه عام ، واذا مابحثنى من منبع نهر من الانهر ، فأنما نفعل ذلك بالنسبة الى ماهو الغالب الاساسي ، ولا نعني بذلك ان جميع مياه النهر تأتي من منبع واحد فعلا ً .
ان اهم العوامل التي تؤدي الى تكوين القرابة المعنوية التي يشعر بها الافراد في الامم المختلفة هي اللغة والتاريخ . فأن الاعتقاد بوحدة الاصل انما يكون في الدرجة الاولى هي من الوحدة في اللغة والاشتراك في التاريخ فالندرس تأثير كل واحد من هذين العاملين الهامين بشئ من التفضبل : اللغة ان اهم الروابط المعنوية التي تربط الفرد البشري بغيره من الناس . لانها اولا ، واسطة التفاهم بين الافراد ، ثم هي فضلا ً عن ذلك ، ألة التفكير ، لأن التفكير ـ حسب تعبير احد العلماء ماهو الاتكلم باطني ، والتكلم انما هو نوع من التفكير الجهري . واخيرا ً ان اللغة هي واسطة لنقل الافكار والمكتسبات من الاباء الى الابناء ، ومن الاجداد الى الاحفاد ، ومن الاسلاف الى الاخلاف .
هذه ، واللغة التي ينشأ عليها الانسان ، تكيف تفكيره بكيفيات خاصة ، كما انها تؤثر في عواطفه كما انها تؤثر في عواطفه ايضا تأثيرا عميقا ً ، فأن اللغة التي يسمعها المرء منذ صغره ، اللغة التي تخاطبه بها امه منذ اوائل حياته الواعية ، لغة التنويمات والاغاني التي تهز مشاعره منذ طفولته ، تؤثر بطبيعة الحال تأثيرا عميقا في تكوينة العاطفي ولذلك نجد ان وحدة اللغة توجد نوعا من الوحة في التفكير والشعور ، وتربط الافراد بسلسلة طويلة ومعقدة من الروابط الفكرية والعاطفية ، ونستطيع ان نقول لذلك : انها تكون اقوى الروابط التي تربط الافراد بالجماعات .
وبما ان اللغات تختلف بين قوم وقوم ، فمن الطبيعي ان نجد مجموع من الافراد الذين يشتركون في اللغة ، يتقاربون اكثر من غيرهم ويتماثلون ويتعاطفون اكثر من سواهم ، ويتميزون عمن عداهم ، فيؤلفون بذلك امة متميزة من الامم الاخرى .
ونستطيع ان نقول لذلك ان الامم يتميز بعضها من بعض في الدرجة الاولى بلغتها ، وان حياة الامم تقوم قبل كل شئ على لغاتها . واذا اضاعت امة من الامم لغتها ، وصارت تتكلم بلغة اخرى ، تكون قد فقدت الحياة واندمجت في الامة التي اقتبست عنها لغتها الجديدة .
كثيرا ما يرينا التاريخ ، ان بعض الامم تستولي على امة اخرى ، وتخضعها لأرادتها ، وتسير شؤونها ما تشاء . ان هذه الاستيلاء يفقد الامة المغلوبة استقلالها ، ولكنه لايمس كيانها ، مادامت الامة المذكورة محافظة على لغتها الخاصة بها ، ومادامت متميزة من الامة المستولية عليها بهذه اللغة الخاصة وقد قال احد المفكرين :(ان الامة المحكومة التي تحافظ على لغتها، تشبه السجين الذي يمسك بيده مفتاح سجنه ) . انها تستطيع ان تفلت من سجنها هذه فتسترد حريتها واستقلالها في يوم من الايام ، لأنها تبقى حية بحياة لغتها ، وتظل محافظة على كيانها كأمة ، برغم انها تكون قد فقدت شخصيتها كدولة . ولكن الامة المذكورة اذا فقدت بمرور الزمن لغتها الخاصة واقتبست وتبنت لغة الدولة المستوليه عليها ، تكون قد فقدت الحياة بتاتا ، واندمجت في كيان الامة التي اعطتها لغتها الجديدة فلا يبقى ثمة امل لعودتها الى الحرية والاستقلال . يتبين من ذلك كله ان اللغة هي روح الامة وحياتها ، انها بمثابة محور القومية وعاودها الفقري ، وهي من اهم مقوماتها ومشخصاتها .
واما التاريخ فهو بمثابة شعور الامة وذاكرتها . فأن كل امة من الامم ، انما تشعر بذاتها وتكون شخصيتها بواسطة تاريخها الخاص