اللاإرادية بشروحي وسلوك أياد علاوي واحتجاج حميد قاسم وأخيرا.. علاوي يدري سهيل سامي نادر

(كتب استاذنا الكبير سهيل سامي نادر هذه المقالة ونشرتها الزميلة واي نيوز ولاهميتها نعيد نشرها لاطلاع قراء “الصحيفة العربية”… المحرر ) 

قرأت لصديقي الشاعر حميد قاسم تعليقا نشره على الفيسبوك يعيب على علاوي ويسخر منه لأنه قال “ما أدري”. فهل أنت تدري يا حميد؟ هل تدري ولا تخبرنا؟

كثيرا ما ردد الدكتور أياد علاوي هذه الكلمة، وبدلا من أن أغضب وأعيبها عليه شعرت أنه كان قد سرقها مني، فأنا لا أدري بجذرية، وأكاد أكون فيلسوفا لا أدريا لولا أنني بلا طموح.

يماثل قولي لا أدري أن أقول إنني جاهل في هذا وليس ذاك، أو في هذا وذاك معا، أي الاشياء المحددة التي يتناولها الكلام. أنا لا أحب البيض لكني لا أكرهه، ولست أدري إن كنت أحبه أو أكرهه. أنا أجهل السبب ولا يعنيني أن اتفحص جهلي، وعندما أسأل أجيب بلا أدري. إنها الحياة. اللهو واللغو الكبير. فهل يبيح لك هذا أن تلومني؟

تجنّ زوجتي من كلمة لا أدري التي استخدمها جوابا على أسألتها في السياسة، فأنا لا أدري إن كانت (داعش) صناعة أميركية أو قطرية أو سعودية ، لكني أستطيع أن أجيبها ازاء إصرارها أن داعش اسلامية، واسلامية أكثر من الربع الخالي خلاءً وجاهليةً، وهي تسبب لي ضيقا وغضبا لم أشعر بهما من قبل، ولا أخفي أنني بتّ أمرض من حالتي، فاستجير بالله وحده، رافعا رأسي الى سماء أراها في خيالي، مجتازا سقوف العمارة الطابقية التي فوقي، والسقوف كلها، مناديا: أغثني عن إسلام المتأسلمين يا الهي!

زوجتي تفترض أن من يكتب في السياسة لابد من أن يكون له رأي يستند على معلومات، في حين أنا كتبت في السياسة ليس بسبب حركة رأي بالمعنى الاحترافي للكلمة، بل بسبب الغيض والغضب من العروض المسرحية التافهة التي يقدمها السياسيون عندنا، ومن الأخطاء البديهية التي تنتشر على رقعة كبيرة فتستحيل الى جريمة. اعترافي هذا لا يسبب لي حرجا ولا يمنحني فخرا. حتى لو أدري، فأنا لست في موقع يجعلني متيقنا وجاهزا، من هنا فأنا دائم التوتر، توتر يجعلني اشعر أنني لست حرا، بل مقيد بمجاهيل وتفاهات خارقة للعادة، فأخفي هذه المشاعر بجواب لا أدري، وأحيانا بشتيمة هائلة جاءت من القرن الرابع الهجري تصف أصول داعش البيولوجية: نطفة فاجرة في رحم قينة!

لماذا يجب أن أدري بالتفصيل عن شيء أسود يحمل علما أسود في ليل الاسلام المعاصر حالك السواد؟ أنا لا أدري إن كنت أحب قميصي الأبيض أو الرصاصي، ولا أدري إن كان عليّ أن أنام على ظهري أو على بطني. أن تواصل عاداتك لا يعني أنك تعرف أسبابها. العادات سلبية محجوزة في مكان معتم لا تعلم بشأنها الكثير. لا إجابات عندك فعليك الصمت أو قل لا أدري التي هي أكثر الكلمات إنسانية وصدقا. في الزمن أنت تعتقد أنك تدري عن البدايات أكثر من النهايات، فالأولى تبدو أشبه بصوت حركة تسرب ماء عادية مثل الشقشقة، والثانية هي طوفان متفجر يأخذك سهوا ويجبرك على حمل فراشك وترحل، فكيف حدث أن تحولت شقشقة ماء الى طوفان، وكيف حدث أنك لم تنتبه؟

ولا كلمة! هيا قلها أو احجزها في مكان ما من عقلك وأنت تضحك من أسرارك!

أظن أن أخي حميد كان قد استغرب أن سياسيا معروفا، في وقت عصيب، يفضح عدم معرفته على الملأ. لقد اعتدنا من السياسيين أنهم يدرون، فإذا بنا نكتشف شذوذا علنيا: إمسك.. علاوي لا يدري!

لا يعرف المالكي بالكهرباء فلام شريكه عالم الذرة على مساوئها. لا يعرف بالعسكرية فلام المحافظ والاكراد على هزيمة الموصل. لا يعرف بالديمقراطية لكنه عض بأسنانه على استحقاقه الدستوري. لا يدري بكل شيء فلام كل شيء محطما إياه.. لكنه ابدا لم يقل: ما أدري!

ها أنا أصل الى نتيجة بسيطة ومقنعة، فلأول مرة يصرّح سياسي من عندنا بأنه لا يدري، فإذا بصديقي حميد يعاقبه. والحال ما حققه أياد علاوي هو نوع من إنجاز، أو هو (الاختلاف) التي يحبها الأدباء. أخمن أنه يتصرف كبغدادي يبدو للوهلة الاولى ساذجا، متلكئا، ويباشر معركته الكلامية من جرجرة الكلام وإشارة من اليد والرأس. أنا مثلا أكرر كلمة (والحال) في سياق الجمل، كأداة ربط أو تذكير أو انتقال، وأحيانا تبدو مثل مخدة لإسناد ظهري عند الجلوس. وبالعكس يجترح علاوي فتحا: ما أدري!

اللهجة عند علاوي تتحدث قبل الكلام، وهي كثيرا ما تبدو جوابا على سؤال. (كل سؤال يضعك بمشكلة غير محددة أو غير متكاملة في عقلك) سيبدو فارغا، كما لو أنه يتذكر شيئا منسيا، وقبل أن يتكلم تأتي عليه زحمة من الإجابات التي تحتاج الى فك اشتباك، وفي هذه اللحظة تهاجمه لا أدريته فيسلم لها أمره ويترجمها حرفيا!

هذا بالضبط ما يجعلني أحبه بعض الشيء، فهو لا يدري ببساطة بغدادية – بساطة مدركة بصريا وذهنيا، كأنها قرديلة حمراء في شعر أشيب لعجوز. لكن اخي العزيز حميد يسأل ساخرا ببغددة مضادة: لعد منو يدري.. عمتي؟

أنت الشاعر تقولها ارتجالا، فهي تمثل سخطا على سوء كبير نعاني منه جميعا، في حين أن أي سياسي ثعلب يستخدمها للتنكيل، لأنه يدري ويستعرض درايته بتبجح مشهّرا بعلاوي حتى قبل أن يفتح فمه. هل تدري يا حميد بأن أياد علاوي كان قد هزم ثلاث مرات او اربع بسبب لا أدريته؟ اؤكد لك مدللا بالبراهين أنه في كل هذه المرات جرى التآمر عليه واستغلاله وإثبات أنه ليس الرجل القوي كما تصفه الشائعات، بل هو غير قادر على المطاولة، وسرعان ما يشعر باليأس والملل وينسحب. شيوعيون يرون فيه بعثيا بالرغم من أنهم جلسوا في ظله بالبرلمان، الكرد لا يحبون فكره العروبي أو ما تبقى منه كما لو أنهم “كوزموبوليتيون”. المالكي يراه بعثيا صرفا كالعلقم في حين هو من وظف بعثيين في مكاتبه المزدحمة- وبأسوئهم. الشيعة لا يعدونه شيعيا، والسنة يرونه محطة للتزود بالوقود، والبعثيون الأقحاح يعدونه خائنا!  

هل تريد ياحميد مقاربة مدعومة بمعلومات واستياءات نزيهة؟ قبل أن تتهمني بأني من جماعة علاوي أقول إنني لم أنتخبه بل انتخبت “المدنيين” الذين عرفت أنهم لن ينجحوا مادام دورهم لا يعدو تحلية فطائر النظام السياسي المرة، ولن ينجحوا من دون نضال وعلاقات خارج البرلمان، وهو خارج استطاعتهم. لماذا انتخبتهم إذن؟ لأنهم أضعف من أن يقوموا بأذيتي إذا ما صرخت بوجوههم. الحياة العراقية مضحكة يا حميد، فأينما تدير رأسك تجد سخفا لا يغتفر فتقرر أن تكون سخيفا بعض الشيء. إسمع الآن حكاية ما بات مركونا بالماضي ولم يعد أحد يراجعه بسبب شخصية علاوي الاستهلاكية الساهية وشخصية منافسيه التراكمية العدوانية.   

ربما في نهاية عام 2006 أطلق أحدهم إشاعة مفادها أن أياد علاوي يسعى للقيام بانقلاب عسكري. من يعرف الحالة العراقية من حيث توازن القوى، ووجود الاحتلال، وهزال القوات المسلحة وانشطارها الطائفي، يدرك أنه ازاء كذبة. بيد أن أصحاب هذه الكذبة أرادوا لنا أن نصدقها بالاحتكام لنظرية أن الانقلابات ديدن البعثيين. كان علاوي البعثي هو من يتآمر إذن، أما علاوي الآخر الذي نسّق مع الامريكان، حاله حال جماعة الحكم من الاسلاميين والكرد، وشغل وظيفة رئيس وزراء، ويعدّه الصدّاميون الأقحاح خائناً، فلم يعد له وجود بعد أن أرجعوه بالقوة الى ماضيه. كان القصد من توسيخ وجه علاوي تبييض وجوه شخصيات أخرى. هكذا تعمل “ميكانيكية” المتخلفين اجتماعيا وسياسيا وعقليا، بل وحتى بعض “المثقفين العضويين” الذين مشوا في الأرض مرحاً بعد 2003.   

 إن انتقال الشائعات بالعدوى معروف، ومعروف كذلك وجود وسط اجتماعي وسياسي سريع العدوى يحتاج الى شرارة حتى يشعل حريقاً، فضلا عن وجود متلازمات سياسية لها تاريخ. إن مثال علاوي له علاقة بأسطورة عودة البعثيين المتجددة على وقع التفجيرات الدموية الارهابية التي كان المالكي يستغلها بين الحين والحين، ويعبئ بها الطائفة لكي يجعلها طوع بنانه، أو يحرج بها الشباب الذين تظاهروا ضد حكومته السيئة.

في الحديث المتكرر عن المصالحة الذي يبدو أنه اتخذ مسارا آخر، طرح علاوي سؤالا بديهيا وأجاب عليه بالبداهة نفسها: المصالحة مع من؟ هذا السؤال نفسه طرحته الجماعات الشيعية المسيّسة وأجابت عليه باستفهام استنكاري: مع قتلة؟ّ! بعد هذا التشويش نتلقى جوابا ايجابيا يتصف بالتجريد: نرحب بكل من يترك السلاح ويلتحق بالعملية السياسية! في الاوساط السياسية الشيعية لا يذكر اسم البعثيين الا في سياق الماضي الاستبدادي، وفي الحاضر تتكفل آليات الاجتثاث بهم.

جواب علاوي كان موضوعيا: إنهم البعثيون الذين يشكلون الطرف الآخر من التصالح.. إنهم من جرى تهميشهم موضوعياً، ومن يشكلون في الحقيقة أعدادا غفيرة ضائعة في الحالة الجديدة. إنهم، بوجه خاص، من تريد القاعدة والمنظمات المسلحة تجنيدهم والاستفادة من خبراتهم.  

ثمة التباس هنا أملته الظروف، وأسهمت به استدراكات سياسية خائفة. فمفهوم المصالحة الوطنية ارتبط موضوعياً بالحالة الأمنية وليس بنزوع سياسي أصيل، وما زال كذلك. (ولا مرة حاولوا تفحص طبيعة أحقادهم وضررها على مستقبل النظام ومستقبلهم بسبب تعصبهم وسوء مقاصدهم). هذا النزوع يحوّل مجموعة من التكهنات والمعلومات العادية الى حقائق، مثلما يحوّل عشرة مسلحين يقومون بالسلب والنهب والقتل على طريق الموصل أو كربلاء الى جهة سياسية. لقد أسسوا وزارة للمصالحة الوطنية صرفت ملايين الدولارات وعقدت العديد من المؤتمرات فإذا بالعراق يتمزق، وإذا بالمصالحة تقتصر على المليشيات القريبة منهم التي أعيد تسليحها واستخدمت ضد المصالحة الحقيقية. كان تحديد علاوي للجهة المعنية بالمصالحة فضلا عن واقعيته، وتمفصله مع الماضي السياسيٍ، يتطابق مع شخصيته وتاريخه وتجربته، وبالفعل فقد توجه من البداية الى دمج بعض البعثيين السابقين الذين عرفهم في الماضي بتنظيمه السياسي الصغير أو بالدولة أو بالحالة الجديدة في الاقل، مع وجود قانون اجتثاث البعث يعمل وكان هو من الموافقين عليه اضطرارا، فضلا عن أنه لم يأت على ذكر عشرات البعثيين الذين جرى اختطافهم واغتيالهم بصمت ظلما وعدوانا.   

بيد أن علاوي وجد نفسه يغرق في الحالة السياسية والأمنية المتأزمة التي راح الآخرون يتفرجون عليه وهو يغطس فيها عندما كان رئيسا للوزراء، بل إن أفضل اسهاماته جرى تبديدها من قبل أعدائه وحلفائه ومنافسيه، أو بسبب فروغ صبره. كانت الحالة العراقية أعقد من أن تفهمها جماعة 2003 غير المتجانسة والتي تمارس التخويف والابتزاز ضد بعضها البعض. كان علاوي نموذجا للرجل الدائخ من عدم الفهم ، ومن الكراهية التي تحيط به، هو الذي لا يمتلك جماعة مؤثرة كي تمارس دورا متوازنا في علاقاته مع الآخرين، وتعوّض عن النقص في المعرفة. إن أسوأ ما فعله في ما بعد هو أنه وسّع قاعدة تحالفاته الانتخابية لتضم الحزب الاسلامي المعروف بالانتهازية، فضلا عن تحالفات مع جماعات مصالح وكذابين. لكن بالمقارنة مع خصومه المالكيين الذين استخدموا المليشيات فهو ليبرالي يواجه نوعا من الفاشية الدينية المتسترة التي يقوم اصحابها بإطاعة مسؤولها الحزبي طاعة عمياء حتى الكارثة (إنهم بعثيون وإن لم ينتموا!). وها نحن نقترب من اللحظة الراهنة التي خسرنا فيها ثلث العراق بيد الداعشيين، اللحظة التي يبدو فيها علاوي حزينا مع 20 نائبا، وحفنة كلام متأخر عن الوحدة الوطنية.  

أذكّرك يا حميد بأنه في أواسط عام 2008 ما كان المالكي يشعر بالحرج إذا ما تحدث عن المصالحة ودمج البعثيين في الدولة، بل إنه سعى الى مفاوضة كبار العسكريين الذين فروا الى دول الجوار من أجل عودتهم. جرى هذا في الوقت الذي كان “المجلس” و”الصدريون” يغتابون سياسته، ويدّعون أنه ملأ مكتبه بالبعثيين، وأنه سلّم العسكريين البعثيين مواقع مهمة. لكن المالكي اختار بعثيين من (علوة) الخاسرين والفاشلين عديمي الكفاءة. لقد اختارهم ليس في سياق برنامج سياسي تصالحي بل في سياق القائد المتفضل الذي يريد خدما، وبسبب ذلك لم يستطع حتى أن يعيد تربيتهم. لقد فشل حتى في اختيار رجاله.

 في عام 2010 فاز أياد علاوي بالانتخابات بفارق مقعدين فجنّ المالكي، وطالب باعادة الفرز فأطيع على الفور. لقد احتاج الى وقت لكي يملأ الطائفة بالفزع من عودة البعث “السني”، مستخدما الأقنية الدستورية في لعبة رخيصة. ماذا فعل علاوي؟ لا شيء، بل أخذوه صاغرا الى أربيل، بعد أن قبل بنصائح الامريكان والكرد بالتهدئة وتسليم رئاسة الوزراء الى المالكي الذي تحدث (علنا) عن استحقاقه الدستوري بوصفه ممثلا للكتلة الأكبر، و(سرا) عن أكثرية مذهبية تخشى عودة البعث السني. 

لماذا لم يشق علاوي (زيكه) ويصيح: لكنني شيعي يا.. ؟ أظنه شرب لبن أربيل المخدّر، مع وعد أن يدير مؤسسة نسيت اسمها الضخم المضحك. كان ايضا بلا حزب ولا مليشيا ولا طائفة ولا أسلحة، في بلد خطر مليء بالمليشيات وبمسدسات كاتمة الصوت وبالمخابرات الاقليمية والدولية. لقد خسر علاوي منذ البداية عندما سها (هل سها فعلا؟) عن اللعبة الاميركية المعدة للعراق المنقسم، فهو لا يمثل طائفة ولا أثنية، بل يعتمد على اجتهاده الشخصي والتذكارات التي يمثلها ومصادفات المزاج العام، وبهذا المعنى يكاد يمثل الشخصية الوسطية لابن المدينة التي استبعدها الامريكان من قيادة المرحلة. كانت سياسة المحتلين هي التسليم بالأمر الواقع الذي ظهر بعد الحرب، أي التسليم بما صنعته أياديهم وخططهم لصعود الطوائف والعمل على وفق نظام الاكثرية والاقلية بالمعنى السكاني الطائفي وليس بالمعنى السياسي. إن التحالف الشيعي الكردي الذي ضم اليه خيول السنة القافزة الى الساحة السياسية، هو الذي يجب أن يشكل النظام السياسي العراقي المبارك من الامريكان!

إن ما يدعى (وثيقة أربيل) هي وثيقة الضحك على الذقون، وتحويل علاوي الى خاسر حزين. منذ ذلك الحين وأياد علاوي الذي ابتلع اللعبة بات لا أدريا على نحو شقي، أي أنه لا يصدّق كل ما يحدث، ويقال إنه راح يقضي جلّ أوقاته في لندن او عمان او لبنان ويصرح بآرائه على الماشي، مجيبا على أسئلة تحتاج الى استرجاع ذاكرة لا تتفق مع مزاجه، هو المعروف عنه السهو والنسيان والضجر والنحوسية. هل هو ليبرالي؟ نعم، هو أكثر ليبرالية من أثقف الليبراليين وأكثرهم خبرة، وأعني به أحمد الجلبي المتمحل ما بين ليبراليته وشيعيته، جامعا ومفرقا بينهما حسب نوعية القبولات الاجتماعية التي يحضرها. ببساطة شديدة أياد ليبرالي من طراز الطبقة الوسطى العراقية الضعيفة سياسيا التي احتلت موقعا غير مؤثر بين الشموليين الاقوياء الوطنيين. إنه ليبرالي بعد أن غادر ماضيه بلا رجعة واشتبك بالحياة والعيش والعادات والاسترخاء المضجر والسهر الى ما بعد الثالثة صباحا يقضيها في نقاشات عقيمة واسترجاع الماضي بحزن، أي تماما ما عرفناه عن أنفسنا عندما كنا شبابا (لا ندري) أننا بتنا أهدافا لمسدسات الغادرين!

للفائدة والختام

كتبت هذا الموضوع قبل أكثر من شهر، بيد أن تطورات سياسية جعلتني اؤجله وأنشر كتابات اخرى عاجلة بدلا عنه. خلال ذلك كنت أشعر أن اياد علاوي واصل صمودا في موقع ضائع تحفر من تحته الطوائف والاثنيات، وعلى نحو ما حافظ على استقلاله بين اصحاب القلاع الاقطاعية الطائفية في الحياة السياسية العراقية. بيد أن أخطاءه واصلت هي الأخرى ملاحقته نظرا لاستسلامه للعبة حكومة الشراكة الوطنية التي مثلت كتلته فيها في حين كان ينتقدها بشدة من دون أن يتحول الى معارض بالمعنى السياسي الاحترافي. ماذا كان ينتظر وهو الذي انتقد المحاصصة؟ من ناحية شخصية ما كان ينتظر أكثر من ان يكون موجودا داخل السلطة لكن بلا فاعلية، ما يجعل منه منافقا بلا صدقية. ومن جهة موضوعية يبدو ان هذا هو برنامج 2003، فإذا ما كنت في السلطة وأنت تعارضها فعليك ألاّ تزيد معيار المعارضة لكي لا ينكسر شيئا قابلا للكسر، أعني كل الترتيبات التي تركها الامريكان وديعة بيد سلاطين الطوائف وسياسيي الطوارئ. لقد ظل علاوي عزوفا عن تأسيس معارضة برلمانية فعالة تعمل من خارج الحكومة وتندمج مع نضالات المواطنين، في وقت كان المالكي مستعدا لقبول معارضة برلمانية ليس لأنه يحب ذلك، بل من أجل تعزيز سيطرته على الحكومة، وكثيرا ما هدد بما سماه حكومة الأكثرية. لو أن علاوي امتلك روح المطاولة والعناد في سياق برنامج واضح، لكان من الممكن أن يقود معارضة نشطة قادرة على مد نفوذها الى جماعات ليبرالية ومدنية من الشباب إذا ما تبنى قضاياهم ودافع عنها في البرلمان والشارع. لكنه تصرف كما لو كان مبرمجا على الا يتخطى حدودا رسمت بصلابة، وأضعف من أن يدير أفكارا وبرامج وسياسات حديثة والنضال من أجلها، مكتفيا بلعبة برلمانية ضائعة، مبقيا على وزراء تكتله في الحكومة. من الواضح أنه أصيب بصدمة عدم حصوله على منصب رئيس الوزراء في 2010 برغم فوزه، وتفكك جماعته الانتخابية وانتهازية الكثير من أعضائها، فإذا به يسقط في لعبة اتفاق اربيل المضحك، ليخسر ماء الوجه، وييأس الناس منه. ومن جديد أداروا رأسه بلعبة السلطة كنائب رئيس الجمهورية، مع اثنين من ممثلي الطوائف الأكثر إضجارا. يقال إنه قبل المنصب تحت ضغط الظروف والحرب ضد داعش، بيد أنه جلس على يمين او يسار المسؤول عن هزيمة الموصل على يد داعش.

تشكل حالة علاوي حكاية عراقية بامتياز، تلخصها جملة كثيرا ما استخدمها الامريكان في وصف الحالة العراقية: الهشاشة! فيما عدا ذلك فإن غالبية السياسيين العراقيين، ولاسيما جماعة 2003، ومنهم علاوي، لا يمتلكون فضائل الصدق والاخلاص في حياتهم السياسية، بل يجيدون التظاهر والعناد والكسل الفكري والعقلي، فضلا عن ثقافة سياسية ومجتمعية يرثى لها.

الان ها هو علاوي يدري، بعد أن أصبح نائبا لرئيس الجمهورية. سجّل حميد عندك: إنه يدري، مثل غالبية متوائمي 2003!

Facebook
Twitter