أنهى الطفل جاسم عزام (13 سنة)، يومه من دون الحصول على ما اعتاد عليه في سائر الأيام،
جاسم الذي يتخذ من تنظيف زجاج السيارات المتوقفة في تقاطعات الطرق والإشارات الضوئية مصدراً لمعيشته، ليكسب منها رزقه ويؤمن طعام أسرته، التي تعيش في قرية نبذها ساكنوها، وأصدر عليها المجتمع حكماً بالنفي، لا لشيء إلا بسبب هويتهم كـ”غجر”.
وتقع قرية الزهور التي يسكنها الغجر، (الكاولية)، في أطراف ناحية آل بدير، شرقي مدينة الديوانية، أما ملحقها الإداري فيتبع إلى ناحية الشافعية،وتسكنها 325 أسرة، هاجرت غالبيتها متخفية بسبب التضييق ونقص الخدمات لأماكن مجهولة.
ويقول عزام، إن “أمي تستجدي في أحد التقاطعات، أما أنا وثلاثة من أخوتي امتهنا تنظيف زجاج السيارات، لنؤمن قوت يومنا وشراء الطعام والحاجيات الضرورية لجدتي المقعدة”.
ويوضح الطفل، أن “والدي عاطل عن العمل، ويعتمد علينا في تأمين سجائره ومصروف جيبه، بعد أن يئس من الحصول على عمل، فكل مكان يقصده يطرد منه بمجرد معرفة هويته (غجري)، لذلك قرر البقاء مع الكثير من أقاربنا الرجال، في القرية وتكليفنا بالعمل نيابة عنهم لأن الناس قد لا تعلم أو تتجاهل هويتنا”.
ويضيف عزام، “اتعرض كل يوم مع إخوتي إلى الكثير من المضايقات والتجريح، لكننا مضطرون للتغاضي فنحن بالفعل غجر، ويؤلمني جداً أن أنظف زجاج أحدهم فيتركني دون إعطائي (250) ديناراً عن ذلك، لكني مجبر على الصمت، والركض للبحث عن سائق آخر، يعوض ما أخذه غيره مني، وكنت أحصل من عملي هذا كل يوم على نحو (10 الى 15) ألف دينار، ويتفاوت المبلغ بيني وبين أخوتي، وهو كاف لتأمين احتياجاتنا ومتطلبات أسرتنا”.
ويبيّن الطفل، أن “نساء قريتنا وأطفالها موزعون على تقاطعات عدة في المدينة، نخرج سوياً مع الفجر بسيارات تقلنا الى مركز المدينة، وتوزعنا على مناطقها، وتعود لنا في المساء لتعود بنا الى منازلنا”.
قرية الزهور التي أحيطت من جميع جهاتها بخنادق صناعية ومواقع لطمر النفايات، ليس لها سوى مدخل واحد، يمر بقوة مشتركة من الأجهزة الأمنية تمنع دخول الغرباء الى القرية، بذريعة الحفاظ على أمنهم، وتفتقر الى بناية مدرسية أو مركز صحي أو أي خدمات بلدية كغيرها من القرى.
ويقول أحد سكان القرية، سالم صبيح، إن “كثيراً من المنظمات الدولية والمحلية ووسائل الإعلام وصلت إلى القرية، وكل منها تعدنا بأن يكون لنا مدرسة أسوة بالقرى الأخرى، للخلاص من الأمية والجهل المكتوبين على جبيننا، أو مستوصف صحي بدل الكرفان الذي ليس فيه سوى حبة البارستيمول، لعلاج الصداع أو ارتفاع درجات الحرارة، لكن لدغة الأفعى أو العقرب أو كسر اليد ليس له علاج في الكرفان، وعلينا نقل من يصاب الى المستشفى إن استطعنا لذلك سبيلاً خاصة في الليل”.
ويتابع المواطن، أن “القانون والمجتمع ظلمانا، فهوية الأحوال المدنية التي وضع فيها صفة الغجر بدل اللقب، وتأشيرة شهادة الجنسية العراقية بكلمة الاستثناء، حرمتنا العمل في أي مكان، وبقينا اليوم بعيدين عن العهر والمجون الذي نوصف به، ونحرم بسببه من حق مواطنتنا وجنسيتنا، على الرغم من أدائنا واجباتنا كمواطنين، لنجرد من تصنيفنا ضمن بني البشر”.
ليس الغجر وحدهم من يعاني ضياع حقوق المواطنة في العراق، فغالبية البدو لا يمتلكون وثائق رسمية بسبب ترحالهم المستمر، وعدم اكتراث كبارهم في السابق بالحصول على الجنسية أو فهم ما تعنيه حتى، إضافة الى التهرب من التجنيد الإلزامي في زمن النظام السابق، الذي سبب اليوم مشاكل عديدة للكثير منهم.
ويقول المواطن، مزهر جبل، إن “كثرة الترحال والتنقل في البرية بحثاً عن العشب لإبلنا، ضيعت علينا حق الحصول على مستمسكات رسمية أسوة بالمواطنين، وتعودنا ذلك ولم نعد نهتم به كثيراً، كما أننا متعودون على تعدد الزوجات وكثرة إنجاب الأطفال، وأخاف مراجعة أية جهة حكومية، وسمعت أن القاضي يحكم من تزوج خارج المحكمة بالسجن، فأي حكم سيصدر بحقي وأنا متزوج من ثلاث نساء ولي 15 ولداً وبنتاً كلهم غير مسجلين، بدون الوصول الى المحاكم”.
ويضيف جبل، أن “جميع من أعرفهم من أقاربي غير مسجلين، ولا يمتلكون وثائق، فنحن وأطفالنا لا نعرف القراءة والكتابة، وليس لنا موطن دائم، فالعشب غايتنا لرعي إبلنا، والبرية مقصدنا ولا حاجة لنا بالمدن ووثائقها”.
المنظمات الدولية والمحلية خصصت برامج عدة لضمان حق المواطنين في امتلاك الجنسية، وأعلنت لجنة الإنقاذ الدولية (IRC)، كشريك تنفيذي للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين، للعمل على حماية حقوق الانسان للمتضررين من النزاع، بفتح مراكز المساعدة والحماية القانونية لعديمي الجنسية أو المهددين به في بغداد وواسط وديالى والديوانية.
ويقول راصد الحماية لعديمي الجنسية، في لجنة الإنقاذ الدولية (IRC)، حسين عناوي رهيو، إن “البرنامج الخاص بعديمي الجنسية أو المعرضين لخطر انعدامها، الذي تشرف عليه لجنة الإنقاذ الدولية، تمت المباشرة به في مدينة الديوانية في 29 آذار 2015، لتسهيل الإجراءات القانونية، والمساعدات المالية لفئات النازحين في عام 2006 و2007، والبدو الرحل والتركيز على أقلية الغجر في العناية”.
ويبيّن رهيو، أن “أكثر من 233 أسرة غجرية غادرت قرية الزهور، ولم يبق اليوم سوى 92 أسرة فقط، بسبب التهميش ونظرة المجتمع الدونية وحرمانهم من أبسط حقوقهم”، ويلفت الى أن “290 طفلاً حرم من الدراسة في القرية بسبب عدم وجود مدارس قريبة ليصبح الجهل والأمية سمة ملازمة لهم”.
ويوضح راصد الحماية، أن “اللجنة في الديوانية تمكنت من إحصاء 190 ملفاً، انجز منها 133 ملفاً، ونجحنا في استصدار وثائق ثبوتية لهم (جنسية، شهادة جنسية، بطاقة سكن، إثبات نسب)”، ويشير الى أن “الاجتهادات الشخصية في بعض الدوائر الحكومية تسببت بتعطيل 37 ملفاً، كما يتحمل بعض المواطنين السبب لعدم التزامهم بالمواعيد معنا، أو بسبب الفقر وعدم امتلاكه أجور النقل ليصل لنا، أو الترحال خاصة بالنسبة للبدو”.
ويدعو رهيو، الحكومة المحلية في الديوانية إلى “توفير الإمكانات التي تتيح لنا حرية العمل مع الفئات المستهدفة، والورش التي عقدت ضمن البرنامج خلال المدة الماضية كانت تهدف الى تحقيق ذلك التعاون، ونسعى حالياً الى فتح مكتب للجنة في المحافظة لضمان تنفيذ برامجنا بدعم من الحكومة”.
نقص التشريعات البرلمانية والمحلية سبب في تفاقم أزمة الغجر بعزلتهم عن المجتمع على الرغم من توقيع العراق على العديد من المواثيق والمعاهدات الدولية التي تضمن حق العيش بكرامة لجميع العراقيين بغض النظر عن لونهم ومكونهم ومهنتهم.
ويرى رئيس اللجنة القانونية والتنسيق في مجلس محافظة الديوانية، إياد طليع الميالي، أن “العزلة عن المجتمع التي يعانيها عديمو الجنسية والمهددون بمخاطر فقدانها، وحرمانهم من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية يوجب على الجميع العمل بجدية لحماية حقوقهم، وقد أبدت حكومة الديوانية استعدادها الى اتخاذ القرارات وإصدار التشريعات التي تضمن لهم حق الحياة الكريمة”.
ويؤكد الميالي، على أن “البدو الرحل وسكان قرية الزهور محرمون من أبسط الخدمات، وسنعمل على توفير ما نستطيع منها في ظل الظروف الاقتصادية التي يمر بها البلد”، ويشير الى “الحاجة الى تشريعات برلمانية ومحلية تراعي دمجهم مع المجتمع، وتوفير فرص العمل والمشاريع الصغيرة المدرّة للأرباح لتأمين الحياة الكريمة لهم، كفيلة بأن تكون بديلاً ناجحاً عن امتهان أطفالهم ونسائهم للتسول أو السلوكيات المنبوذة في مجتمع محافظ”.
وأصدرت وزارة الداخلية العراقية تعليمات إلى مديريات الجنسية في المحافظات، تقضي برفع صفة “الغجري” من هوية الأحوال المدنية وكلمة “الاستثناء” من شهادة الجنسية، وأصبحت نافذة العمل للمساواة بين المواطنين.
ويوضح مدير شؤون الأحوال المدنية في الديوانية، العقيد علي كاظم، أن “تعليمات صدرت من الجهات العليا توصي بمعالجة قيود الغجر، ورفع كلمة (غجري، كاولي، قرج)، من حقل اللقب والمهنة في هوية الأحوال المدنية، بمجرد تقديم المواطن طلباً الى دائرة أحواله المدنية بحسب مسقط رأسه، ليتم ترويج معاملته وفق الأصول، بموجب الاستمارة 25، لنصدر له قراراً إدارياً وفق المادة (17)، ويمنح هوية أحوال جديدة خالية من اللقب”.
ويستدرك كاظم، أن “التعليمات نصت على رفع كلمة الاستثناء من شهادة الجنسية العراقية، وإصدار شهادات جنسية جديدة خالية من أية كلمة أو صفة تدل عليهم، أسوة بباقي المواطنين”.
ويرى بعض المؤرخين أن الغجر في العراق يشكلون أقلية عرقية حيث يتراوح عددهم بين 50 و200 ألف نسمة، ينتشرون في جماعات صغيرة على عموم العراق ويسكنون في تجمعات قروية أو بشرية عادة ما تكون منعزلة عند أطراف المدن أو الأقضية، حيث توجد تجمعاتهم في بغداد- ابو غريب والكمالية – والبصرة – شارع بشار وحي الطرب على طريق الزبير- والموصل في -هجيج والسحاجي- إضافة إلى بعض القرى في سهول جنوب العراق كالديوانية -قرية الفوارة- والمثنى ومنطقة -الفجر – في الناصرية.
ويعتقد البعض أن كلمة (كاولي) تعني (كابولي)، أي قادم من كابول عاصمة افغانستان، وهذا الجواب يحمل شيئاً من الحقيقة، كما يقول اللغوي العراقي الراحل مصطفى جواد، فالغجر أصلهم من الهند وافغانستان وخصوصاً المناطق الجبلية في هذه المناطق، فبشرتهم ولون عيونهم وقوامهم تشبه سكان جبال الهند وافغانستان، وقد بدأ هؤلاء الأقوام يصعدون الى الشمال الغربي منذ الألف الثاني قبل الميلاد، ودخلوا بلاد فارس ثم نزلوا السهل العراقي في الألف الأول ق.م. وكانوا بدواً رحلاً يعتاشون على منتجاتهم الحيوانية خصوصاً الحليب وأيضاً امتهنوا مهنة الرقص والغناء التي حملوها معهم من ديارهم ليمارسوها في أفراح المناطق التي ينزلون جوارها.