د. خليل عبدالرحمن
تخضع المجتمعات العربية لسلطة الأب الذي بدوره يخضع لأبوية الموروث الاجتماعي بقوة ولا يتمتع بكيان ذاتي مستقل إلا من خلال المجتمع الذي يعيش فيه. وبالتالي فالأزمة التي يعيشها الإنسان العربي هي أزمة انعدام تقدير الذات ككيان مستقل لأن جُلَّ أفكاره تقليدية مستوحاة من بيئته الاجتماعية التي تمكنت من إضفاء صفة القدسية على أفكارها. يتمُّ إعداده وهو طفل ويُربى تحت نظام الترغيب والترهيب مما يولد لديه عقدة خوف مستديمة. أول شيء يخافه الطفل هي سلطة الأب ونزعته التسلطية التي لا تقبل النقاش والجدال في أي موضوع.
وتتذرع هذه النزعة بقصور الطفل وعدم أهليته إلى الحد الذي يغوص فيه الشعور بعدم الأهلية إلى وعيه الباطني، فيصبح بالغاً وهو لازال يشعر أنه غير كفء لمعرفة الحقيقة وهو بحاجة إلى الوصاية عليه كي يحدِّد كيف يتعامل مع الآخرين وكيف يتصرف في شؤون حياته. وبهذا تتطور عقدة الخوف لديه لتصل إلى مرحلة الخوف من المجهول، الخوف من المستقبل، والخوف من القوى الكونية، الخوف من الدولة.
وتنمو وتتعقد هذه العقدة وتتشابك في بنياتها إلى الحدِّ الذي يظهرُ فيه الإنسانُ العربي بشكله الحالي المتناقض بين ما يريد وبين ما يخاف منه. فيعتقد بأنه لا يقدر أن يبدع لأنه غير مؤهل، والأهم من هذا كله أنه يوجد دائماً من يُعينه على رؤية الحقيقة وهو يثق بهذا الذي يُريه دربها ويُعينه على حلِّ مشاكله، وكان هذا متمثلاً بأبيه في طفولته وموروث المجتمع عند بلوغه، وتطور اليوم إلى المستوى الذي احتلَّ فيه رجل الدين هذه المكانة الخاصّة التي بموجبها يكون وصيّاً عليه.
أين هو المفصل الفاعل الذي يتوجب علينا كسره للسعي قدماً في بناء ثقافة أسرية اجتماعية صحيحة في العالم االعربي؟. كانت الولايات المتحدة وإدارتها تعتقد أن من شأن الديمقراطية إذا حلَّت في العراق أن تلغي أبوية هذا المجتمع، لكن الذي حدث أصابها بالذهول. اعتمدت أمريكا على أبحاث ودراسات للمجتمع العراقي أجراها أشخاص غربيون وليسوا من المنطقة العراقية أو العربية على أقل تقدير. مشكلة الباحث الغربي أنه نشأ في بيئات اجتماعية لا أبوية تعطيه الحرية والقدرة على الاعتزاز بالنفس منذ نعومة أظفاره، بل إن جذور الثقافة الغربية، إذا صح إسنادها لليونان، كانت قائمة على تقدير الذات. لهذا السبب لا يمكن للباحث الغربي حتى ولو كان على إطلاع كامل بموضوع الثقافة الأسرية العربية من وضع الحلول لإحداث تغييرات جذرية فيها.
وما يجري في العراق دليل على أن المجتمع الأبوي غير قادر على إنتاج الحرية والذي يتحوّل إلى صورة أخرى من الإرهاب والفساد الإداري المطلق إذا ما حلَّت الديمقراطية الغربية المستوردة فيه. فعندما نطلق الحرية في مجتمع أبوي بدون معالجة الأسرة أولاً يعني إعطاء الحرية لمنظمات الاستبداد والاستعباد المصغرة المتمثلة بالعصابات الإجرامية والتنظيمات السياسية ونظم الإدارة الفاسدة في الدولة. وهذا إن دلَّ على شيء فهو ضعف الثقافة العلمية النفسية الاجتماعية لصناع القرار في البيت الأبيض، وهذا ما أدّى إلى الفوضى الأمنية والاقتصادية والانتخابية.
يبدأ البناء الديمقراطي في المجتمع الشرقي من الأسرة صعوداً إلى أعلى هرم في السلطة وليس العكس كما يحدث في الغرب، لماذا؟ لأن المجتمع الغربي أصلاً منتج للديمقراطية من خلال طبيعة بنائه الاجتماعي والأسري، لِذا يكون من السهل ترسيخ وتثبيت مفاهيمها فيه. وهو عكس المجتمع الشرقي الأبوي الذي ينتج الاستعباد للأب وللإله عبر تاريخه الطويل. نعم، كان من الأولى أن تتقدم الأسرة قبل الدولة في بناء مجتمع حُر، فهنا شرق الأساطير والميتافيزيقا وليس غرب المنطق والقوانين.
إن الديمقراطية لا تأتي من الديمقراطية في الشرق (لأنها لا توجد بالأساس) ولا من ديمقراطية الغرب، بل يجب على الشرق أن يجد حلاً لمشاكله انطلاقاً من جذوره وتاريخه وأصوله، حلاً يكون قادراً على إزالة جذور الاستعباد المرئية وغير المرئية والخوف القابع في كوامن اللاوعي الجمعي العربي، بدءاً بالأسرة وقوانين العلاقات التي تحكمها وانتهاءً بتربية الطفل. الإنسان العربي حتى لو تقبل مفاهيم كالديمقراطية وطبقها في مناهج حياته إلا انه يجد من السهولة التخلي عنها، عكس الإنسان الغربي الذي يكون مستعداً للموت في سبيل حريته. يقول “الصادق النيهوم”: “تختلف كلمة، “عسكري” عن “المجاهد”، “البنك” عن “بيت مال المسلمين”، وكذلك “الديمقراطية” عن “الشورى”. كما تتفق الشرائع السياسية الغربية على إباحة التضحية بالمواطنين دفاعاً عن تراب الوطن، ورغم أن أحداً لا يعارض هذا في العالم العربي، إلا أن اللغة العربية الشرعية لا تعترف بقدسية الوطن، والمسلمون لا يموتون طائعين في سبيله، بل يموتون في سبيل الله. وهي فكرة مختلفة جداً، لأنها قد تعني أن يرفع المسلم سلاحه، باسم الشرع، في وجه ما يُدعى بوطنه المقدّس”.
وما نلاحظه اليوم في العراق هو إن الشمولية وصلت إلى مستوى إن هناك من يكون مستعدا للانتحار في سبيلها. وهي في النهاية محصلة ونتيجة حتمية أشكال الأستبداد ، الذي يغذي تقبل أي استبداد آخر يكون بمستوى المنظومات الأعلى: المؤسسة، التنظيم السياسي، الدولة، والنظام بصورة عامة، هذا التقبل الذي يُهمل في كثير من الأحيان لأسباب بسيطة وهي إن علماء النفس ليست لهم توجهات سياسية، ومن النادر أن تجد سياسيين مطلعين على مناهج علم النفس إلى درجة الاحتراف. العراقيون بحاجة إلى سياسيين يمتهنون السيكولوجيا مستوعبين الثقافة العربية بالكامل لإعادة رسم البناء الأسري الشرقي لا إلى غربيين ليس بمقدورهم استيعاب الثقافة العربية. ولو تمت إعادة رسم الخريطة الاجتماعية العراقية اعتماداً على دراسات يتمَّ إجراؤها بواسطة أناس مفكرين من داخل المجتمع العراقي والعربي بصورة عامة ويبرمجون هذا الإصلاح بما يخدم مجتمعاتهم لا ما يخدم أمريكا وسياستها التي تظهر عكس ما تبطن، ولو كانت مخلصة بما فيه الكفاية لتمكنت من إيجاد الحلول لأزمتها الكبرى في العراق