(( تحت عنوان (صور من الماضي البعيد) يواظب الصحفي الرائد المخضرم الاستاذ محسن حسين نشر استذكارته عن الحقب والشخصيات السياسية التي رافقها خلال العهد الجمهوري، ولاهمية هذه الاستذكارات تضعها الصحيفة العربية بين يدي قرائها))
مع صدام حسين
كصحفي رافقت صدام حسين في ثلاث زيارات له خارج العراق عندما كان نائبا لرئيس مجلس قيادة الثورة وكنت انذاك في وكالة الانباء العراقية (واع) ثم كنت ممثلا لمجلة الف باء ضمن الوفود الصحفية التي رافقته إلى مؤتمرات القمة العربية عندما أصبح رئيسا للجمهورية.
لا اعرف كيف تم اختياري لمرافقة صدام رغم أني لم أكن في حزب البعث وكانت المرة الأولى عام 1969 لتهنئة قادة الثورة الليبية تلتها زيارتان إلى الاتحاد السوفياتي أسفرتا عن توقيع معاهدة صداقة بين البلدين.
السفر مع صدام حسين لا يخلو من المفارقات الطريفة، وقد حدث لي الكثير منها ولكن أطرفها على الإطلاق ما حدث أثناء ثاني زيارة له إلى الاتحاد السوفييتي من 10 إلى 17 شباط 1972.
بعد وصولنا مطار (فنوكوفو 2) وانتهاء الاستقبال الرسمي توجه موكب صدام إلى تلال لنين في ضواحي موسكو حيث خصص أحد قصور الضيافة له وقام بزيارة قبر لنين في الساحة الحمراء حيث وضع اكليلا من الزهور. أما نحن أعضاء الوفد المرافق فقد توجهت بنا السيارات من المطار إلى فندق مخصص أيضا لاستضافة الوفود الرسمية في مركز العاصمة موسكو وهناك وزعت علينا الغرف بمعرفة مسؤولين من دائرة البروتوكول (المراسم) في وزارة الخارجية السوفيتية.
وعندما وصلت إلى غرفتي وجدت أنها جناح (سويت) يضم غرفة استقبال إضافة إلى غرفة النوم ووجدت في الغرفة باقة زهور وسلة مليئة بالفاكهة المنوعة، ولما خرجنا من الفندق للالتحاق بالموكب الرسمي وضع المرافقون السوفييت سيارة فخمة تحت تصرفي في حين خصصوا سيارة لكل ثلاثة أو أربعة من أعضاء الوفد.
وفي بادئ الأمر تصورت أن ذلك أمر طبيعي وأن جميع زملائي في الفندق قد حصلوا على (سويتات) مماثلة، ولكني اكتشفت بعد قليل أن البقية قد حصلوا على غرف اعتيادية وليس فيها زهور ولا فواكه!!. قلت في نفسي لعلهم ميزوني على البقية لأنني الصحفي المكلف بتغطية أخبار الزيارة ولأنني معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية وأن هذا الاهتمام سينعكس على ما أرسله من تقارير إخبارية وما سأكتبه في المستقبل من انطباعات (جيدة) عن الاتحاد السوفيتي!!
في اليوم الثالث من الزيارة اكتشفت (سر) هذا الاهتمام !!
في حوالي منتصف الليل فوجئت بالمرحوم شاذل طاقة وكان في ذلك الوقت، على ما أذكر، وكيلا لوزارة الخارجية يطرق باب غرفتي، دخل إلى الغرفة وهو يضحك قائلا انه يريد أن يرى الغرفة المخصصة لي، ولما اطلع على (السويت) قال لي بالحرف الواحد مازحا (جماعتك السوفييت انلعبو)!!.
وشرح لي ما حدث، قال إن موظفي مراسم الخارجية السوفيتية تلقوا إشارة من سفارتهم في بغداد أن أخ صدام حسين ضمن الوفد وقد أرادوا الاهتمام به إكراما للضيف فدققوا في أسماء أعضاء الوفد فوجدوا اسم (محسن حسين ) واعتقدوا انك أخو (صدام حسين) في حين أن المقصود كان برزان إبراهيم التكريتي الاخ غير الشقيق لصدام ولم يكتشفوا خطأهم إلا اليوم .
وقال لي المرحوم شاذل لا تستغرب إذا غيروا غرفتك وسحبوا السيارة يوم غد!!
غير انهم لم يفعلوا ما توقعناه وظلت الأمور كما هي طوال الزيارة.
مع عبدالكريم قاسم
في كل مرة عندما تذكر حادثة مقتل الرئيس عبد السلام عارف في حادث الطائرة الشهير في البصرة عام 1966 تتداعى امامي احداث ظلت غير معلنة عن خلل في طائرة الزعيم عبد الكريم قاسم في البصرة ايضا قبل ذلك بخمس سنوات كان من الممكن ان يؤدي الى مقتله.
كنت قد استدعيت في 26 اذار 1961 للذهاب الى البصرة لتغطية حفل وضع الحجر الاساس لميناء ام قصر.
في تلك المهمة قمت بعملي الصحفي لوكالة الانباء العراقية التي مضت على تأسيسها سنة ونصف السنة.
هذه الاحداث التي ارويها تتعلق بعودة الزعيم الى البصرة بعد انتهاء حفل وضع الحجر الاساس للميناء وهي احداث لا يعرف الكثيرون تفاصيلها . وفي يومها ظل العشرات من المسؤولين في البصرة ينتظرون في المطار عودة الزعيم في الوقت المحدد لعودته دون ان يعرفوا سبب تأخره.
ما حدث هو خلل في طائرة الزعيم روسية الصنع Mi-4 رقمها 471 اكتشف قبل ان يتوجه للطائرة.
وقد اطلعت على تقارير حول الحادث في وقت لاحق منها ما كشفه قائد الطائرة واثق ابراهيم البياتي وهوالطيار الخاص للزعيم وقد تقاعد برتبة لواء وللمعلومات رافق واثق الزعيم بعد عودته من انكلترا في ايلول 1958 وحصوله على شهادة (v.i.p) لنقل الشخصيات المهمة.
يقول انه قام بفحص الطائرة السمتية (Mi-4) روسية الصنع المخصصة لنقل الزعيم فتبين ان فيها عطلا لا يشجع على اكمال الرحلة وعلى الفور تركها وتحول الى الطائرة الثانية وهي من نوع (ma4) رقمها 481 وكانت افضل من سابقتها عدا انها تستهلك كمية اكبر من الوقود.
صعد الزعيم الى الطائرة دون ان يعلم بالتغيير وكان معه قائد القوة الجوية جلال الاوقاتي.
بعد لحظات من الطيران طلب الاوقاتي من واثق التوجه الى الميناء العائم وهو من المشاريع التي كان يجري انشاؤها لتصدير نفط البصرة.
وحسب رواية الطيار واثق وبعد طيران (35) دقيقة فوق مياه الخليج وصلوا الميناء العائم وبدأت الطائرة بالحوم (الاستدارة) حوله لكن قائد القوة الجوية ابلغ الطيار ان الزعيم يريد النزول على سطح الميناء العائم الذي كان ما يزال تحت الانشاء وهو عبارة عن (رمبه ) على سطح مياه الخليج.
انتخب الطيار موقعاً خالياً من المعوقات للنزول عليه وعندما ترجل الجميع من الطائرة طلب الزعيم اطفاء المحرك لكن الطيار اعترض محذرا مما يحدث اذا لم تشتغل الطائرة مرة اخرى والزعيم معزول وسط مياه الخليج ومعزول عن العالم لكن الزعيم اصر قائلا اذا لم تشتغل الطائرة سنعود بالزوارق.
وهكذا نفذ الطيار طلب الزعيم واطفأ المحرك وظل الزعيم مع العاملين في الميناء العائم من مهندسين وعمال واداريين يتحدث معهم كعادته واطمأن على اوضاعهم واستمع لشرح المهندس المقيم لما انجز من المشروع.
استمرت الزيارة نحو ساعة اتجه بعدها الى الطائرة التي قام الطيار بتشغيلها فاشتغلت دون اية مشاكل وما هي الا ثوانٍ حتى اقلعت واتجهت صوب البصرة .
لكن احداث الرحلة لم تنته الى هذا الحد فقد اكتشف الطيار ان مؤشر الوقود كان يعلن بان كمية الوقود بدأت بالنفاد وان المطلوب وجوب اتخاذ اجراء سريع حرصاً على عدم الوصول الى حالة الخطر.
يفسر الطيار واثق نفاذ الوقود بان المسافة التي قطعتها الطائرة ذلك اليوم كانت ضعف المسافة المقررة اصلاً اضافة الى ان الطائرة من النوع الذي يستهلك كميات كبيرة من الوقود.
يقول الطيار حرصاُ منه على حياة الزعيم ومن معه وتقديراً للحالة وما يملك من خبرة بدأ يفتش عن اقرب نقطة تساعده للنزول اضطراريا بأمان قبل ان ينتهي الوقود.
وبعد لحظات من القلق وقع اختياره على ساحة لكرة القدم في منطقة شعبية قرب مركز للشرطة فقام بالنزول واخبر قائد القوة الجوية بالحالة التي كانت الطائرة فيها فتفهم ذلك ورحب بما فعله.
عندما نزل الزعيم من الطائرة التف حوله اهالي المنطقة يحيونه ويهتفون باسمه وقد سره ذلك كثيرا وقام منتسبو مركز الشرطة بتوفير سيارات اهلية نقلت الزعيم ومن معه الى مقر اقامتهم في البصرة في حين عاد الطيار بطائرته بعد ان خف حملها الى مطار البصرة ليجد مجاميع من الموظفين والناس ينتظرون ان ينزل الزعيم من الطائرة لكنهم فوجئوا انه لم يكن فيها.
في المساء اقيم حفل عشاء على شرف الزعيم. وكنت بين من حضروا الحفل.
وهناك شاهد الزعيم الطيار واثق فاقترب منه وساله عما حدث وكيف عاد بالطائرة وهي قد اوشك وقودها بالنفاذ فقال بعد نزول الجميع انخفضت حمولة الطائرة مما يساهم في خفض ما تستخدمه الطائرة من الوقود وهكذا استطاع الرجوع الى المطار وهي فارغة من الركاب. ضحك الزعيم وربت على كتف واثق شاكرا له تصرفه