الصبيان المشردون قنابل قيد الانفجار على ناصيات الشوارع

/* Style Definitions */
table.MsoNormalTable
{mso-style-name:”Table Normal”;
mso-tstyle-rowband-size:0;
mso-tstyle-colband-size:0;
mso-style-noshow:yes;
mso-style-priority:99;
mso-style-parent:””;
mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt;
mso-para-margin:0cm;
mso-para-margin-bottom:.0001pt;
mso-pagination:widow-orphan;
font-size:10.0pt;
font-family:”Calibri”,”sans-serif”;
mso-bidi-font-family:Arial;}

دار المشردين تطرد نزلاءها الصبيان الى ساحات التشرد والعصابات

 

مشردون يبيعون اعضاء اجسادهم كي لا يخسروا اجسادهم وارواحهم غي العمل الاجرامي

 

يفترش الشاب أحمد رياض منذ قرابة العام، أرضَ «حديقة الأمة» الواقعة في منطقة الباب الشرقي وسط العاصمة بغداد، بعد خروجه «قسراً» من دار المشردين لتجاوزه السن القانونية. رياض الذي يعتاش الآن على ما يكسبه من بيع قناني المياه النقية قرب ساحة التحرير القريبة من الحديقة، يعتقد أنه أفضل حالاً من زميله نبيل عباس الذي خرج من دار المشردين قبله بعام واحد، ويقضي الآن حكماً بالسجن ثلاثة أعوام بتهمة الانتماء لـ «عصابة سرقة سيارات»*.

تحوَّل نبيل عباس من مجرد مشرد الى «لص محترف»، بعد أقل من عامين قضاهما في التشرد بشوارع العاصمة، ولا احد يعرف بالضبط الى ماذا سيتحول حين يخرج من السجن.

وربما سيكون مصير أركان محمد، الذي اعتقل بعد أشهر قلائل من خروجه القسري من دار المشردين، مشابهاً لمصير عباس، فهو لم يتمكن حتى الآن من إقناع المحققين بأنه لم يكن ينوي تنفيذ عملية إرهابية حين عثرت عليه الشرطة مختبئاً في «براد» مهجور في ساحة للأنقاض شرقي العاصمة، بل كان ينام في المأوى الوحيد الذي حصل عليه بعد خروجه من دار المشردين.

أحمد رياض ونبيل عباس وأركان محمد وآخرون غيرهم، كانوا كلهم ضحايا «تشرد قسري» فرضه إصرار الحكومة على تطبيق قانون قديم للمشردين سُنَّ قبل نحو 28 عاماً، يقضي بعدم السماح لمن تجاوز سن الـ18 عاماً بالبقاء في دار المشردين، حتى لو كان مأواه البديل هو شوارع المدن ا الملتهبة بالعنف، والتي تصفها بعض التقارير بأنها من أخطر المدن في العالم.

قانون «قديم» لمجتمع متحول

يعرِّف قانون الاحداث رقم 76 لسنة 1983 «المشرَّد» بأنه كلُّ حَدَث لم يتجاوز الـ15 من العمر ويُعثر عليه من دون مرافقة ولي أمره وهو يتسول في الاماكن العامة، او يمارس متجولاً مهنة مثل صبغ الأحذية او بيع السجائر أو أي مهنة اخرى تعرضه للجنوح. كما اعتبر القانون الحدث «مشرداً» اذا لم يكن له محل إقامة معين او اتخذ الأماكن العامة مأوى له ولم تكن له وسيلة مشروعة للعيش، او ترك منزل ذويه من دون عذر مشروع.

خبراء قانون وعلماء اجتماع وباحثون وجهات رسمية معنية بقضايا المشردين، وجهوا انتقادات لاذعة لقانون المشردين الذي لم يخضع للتعديل منذ 28 عاماً، رغم كل ما مر به العراق من حروب ونزاعات وتحولات اقتصادية واجتماعية خلال العقود الثلاثة الاخيرة.
الباحث عبد الرزاق سليمان أشار الى ما يسميه «غياب الإدراك الحقيقي» لأهمية تعديل ذلك القانون، مستعرضاً في الوقت نفسه الصورة المأسوية الواسعة التي انتهى إليها ملف المشردين في العراق أواخر العام 2011.

أرقام متضاربة

ازاء كل هذا، يلخص الباحث ما يحويه ملف التشرد في العراق بأنه «مأسوي» لا يمكن حل تداعياته بقانون جامد مضى عليه قرابة الثلاثة عقود.

تعترف وزارة التخطيط بأنها لا تمتلك حتى الآن أي إحصائيات يمكن من خلالها معرفة العدد الحقيقي للمشردين. ويبرر الناطق باسم الوزارة عبد الزهرة الهنداوي غياب هذه الاحصائيات الى التأجيل المتكرر للإحصاء السكاني في العراق على خلفية الصراعات السياسية التي تحيط بملف الإحصاء.

آخر تعداد سكاني جرى في العراق كان عام 1997، لكن حتى هذا التعداد لم تكن فيه أي إشارة الى المشردين كما يقول الهنداوي، الذي يقر بأن الحصول على أعداد المشردين الحقيقي هو السبيل الأمثل للبدء بإعداد الخطط اللازمة لتأهيلهم وحل مشكلتهم المزمنة.
الهنداوي ينتقد التقارير التي نقلت عن وزارة التخطيط رقماً «وهمياً ومبالغاً فيه» للترويج لاهداف سياسية لا علاقة لها بأوضاع المشردين. ويشير في هذا السياق الى التقارير التي نقلت عن الوزارة ان عدد المشردين في العراق وصل الى 500 الف مشرد بعد وقوع الاحتلال، بالإضافة الى أكثر من 5 ملايين يتيم ومثلهم من الأرامل كحصيلة لأحداث ما بعد العام 2003. لكن لا يوجد اي مصادر موثوقة، كما يقول الهنداوي، لهذه الارقام الافتراضية.
الباحث سلام الاعرجي يستهجن ما يسميه «خرافة الأرقام المليونية» التي تقدمها هذه التقارير، لكنه في الوقت ذاته يستهجن بشكل أكبر «سذاجةَ» الأرقام التي تطرحها المؤسسات الحكومية ، فليس من المعقول كما يقول الاعرجي أن يكون عدد المشردين بضعة مئات فقط في بلد مثل العراق عانى ثلاثة حروب وحصاراً اقتصادياً طويلاً وصراعاً طائفياً امتد لسنوات.
الأرقام التي طرحتها إدارة الدارين الوحيدين في العراق (دار المشردين ودار المشردات في بغداد)، تؤيد ما ذهب اليه الاعرجي، فلا تضم هاتان الداران رسميا سوى 62 مشرداً و 47 مشردة.
وما بين الفرق الشاسع في الأرقام المطروحة (109 مشردين وفق الاحصائيات الرسمية و500 الف مشرد بحسب بعض التقارير)، يعيش المشردون الحقيقيون في العراق وضعاً خطيراً فشلت الدولة حتى الآن في معالجته أو فهمه بشكل صحيح، كما يقول الاعرجي، الذي يطلب من الحكومة أن «تنتظر قليلا لترى كيف سيكون ملف التشرد بوابة عنف واسعة في العراق، إذا لم يُتدارك أمرها منذ الآن».

العنف.. أول الأبواب المشرعة

ما زال الفتى صفاء الذي هربه جنود عراقيون بسيارتهم العسكرية الى العاصمة بغداد بعد مقتل كل أفراد عائلته بقصف اميركي في مدينة الفلوجة، يشعر بالقلق حيال فكرة عودته الى مدينته مجدداً والتعرض للظروف ذاتها التي دفعت بوالده واثنين من أعمامه للانضمام الى تنظيم القاعدة.

سيخرج صفاء بعد بضعة أشهر من دار المشردين في ختام 6 سنوات قضاها بين جدرانها، لكنه لا يعرف حتى الآن الى أين سيمضي بعدها.

يعتقد مسؤول بارز في قيادة عمليات بغداد التي تتولى الملف الأمني في العاصمة، أن المشردين ما زالوا يشكلون خطراً بالغاً على مجمل الحياة في العراق، خصوصاً في ما يتعلق بقضايا العنف المسلح، فهناك عدد كبير من المشردين ثبت ضلوعهم بزرع العبوات الناسفة او وضع عبوات لاصقة تحت سيارات مستهدفة او مراقبة عناصر نقاط التفتيش لمعرفة عدد الجنود المتواجدين في موقع عسكري معين، وبعضهم كان يَسْتَرِق السمعَ بالقرب من جنود الدوريات بحجة بيع الماء او الحلويات.

يرفض المسؤول البارز ان يعطي أي أرقام، حتى لو كانت تقريبية، لعدد المشردين الذين التحقوا بالعمل المسلح او شاركوا فيه. لكنه يروي كيف أن عناصر تنظيم القاعدة كانوا يستغلون حاجة المشردين الصغار للمال من اجل استخدامهم في عمليات تفجير مبتكرة، واحدة من هذه القصص كانت قصة الحمال الصغير «سعيد» الذي طلب منه رجل مجهول نقل بضعة أكياس فاكهة الى سيارته المركونة في طرف السوق.

ظل سعيد يومها يبحث عن الرجل المجهول الذي غاب وسط الحشود، وسرعان ما كانت أشلاء سعيد تتطاير مع أجساد عدد من المتبضعين جراء انفجار مادة الـ C4 التي وضعها الرجل المجهول في أكياس الفاكهة وفجرها من بعد.

الطريقة نفسها اتبعها التنظيم في مناطق أخرى من العراق، ففي محافظة ديالى اعتقلت القوات الامنية 11 صبياً مشرداً، تورط أحدهم في وضع عبوة لاصقة في سيارة موظف كبير مقابل 20 الف دينار فقط (17 دولار أميركي) ما تسبب بقطع ساق الموظف وعجز شبه تام في

باقي أنحاء جسده.

ضابط التحقــيق الذي تولــــى استجـــــواب المشردين الصغار، ظل محتفظاً في ذاكرته بمشهد الفتى الذي انهار وهو يدرك، لأول مرة، أن «الأمانة» التي أوصلها مقابل 10 آلاف دينار (7 دولارات)، ستكلفه البقاء في السجن ما لا يقل عن 7 سنوات.

الأمانة التي طلب منه «رجل غريب» إيصالها لصديقه صاحب محل بيع الأقمشة في طرف السوق، كانت عبارة عن عبوة ناسفة موضوعة داخل مغلف سرعان ما انفجرت وتسببت بمقتل صاحب المحل وجرح آخرين كانوا بالقرب منه.

مشردون… وقادة عصابات

في الطرف الآخر من معادلة استغلال المشردين من قبل التنظيمات المسلحة لتنفيذ اعمال عنف، يقف المشردون أنفسهم في صراع مع باقي فئات المجتمع، من خلال العصابات التي يشكلونها بعيداً من أعين السلطات، ويبرعون في قيادتها او الانضواء فيها. وتحفل سجلات شرطة بغداد بأسماء عدد كبير من عصابات القتل والابتزاز والسرقة التي كان يقودها مشردون.
غالبية المشردين الذين التقتهم كاتبة التحقيق في سجن الأحداث ببغداد على خلفية انتمائهم لعصابات السرقة والمجموعات المسلحة، ينحدرون من أسر امتهنت الإجرام والسرقة او مارست العنف ودفعت أبناءها للسير في الطريق نفسه، آخرون انحرفوا بإرادتهم واختاروا حياة التشرد، لكنهم جميعاً كما يرى الباحث في سجن الأحداث ماجد حسام الدين، كانوا ضحية الفقر وانتشار مظاهر الجريمة بشكل واسع منذ تسعينيات القرن الماضي.
أخطر العصابات التي انتشرت في بغداد خلال السنوات الأخيرة من القرن الماضي، وصولا الى نيسان (ابريل) عام 2003، كما يقول حسام الدين، كان يقودها فتيان مشردون يقتل بعضهم بعضاً.
يتذكر حسام الدين كيف أن أسعار المقصات القادرة على كسر الأقفال الحديدية الكبيرة ارتفعت بشكل كبير حين بدأ «الربيع العربي» مطلع هذا العام، فقد كانت العصابات التي يقودها المشردون تتحرك علناً بالقرب من محلات الذهب وحتى المصارف بانتظار أي تطورات أمنية على خلفية التظاهرات، ففي العراق غالباً ما تكون أي متغيرات على الساحة فرصة تقتنصها عصابات المشردين للانتقام من المجتمع والاستحواذ على كل ما يصلون اليه.

المشردون… أرخص بضاعة  في سوق الأعضاء البشرية

أحصى المحقق في وزارة الداخلية رحيـــم اللامي، أكثر من 25 حالة إتجار بالأعضاء البشرية كان ضحيةَ 14 منها مشردون تقل أعمــارهم عن 18 سنة. الأرقام التي ذكرها اللامي هي فقط ما تمكَّن من متابعته هو شخصياً خلال العام الماضي فقط.

يقول اللامي إن اغلب هذه الحالات كانت تتعلق ببيع كلى مشردين قامت عصابات منظمة بنقلهم من بغداد ومدن الجنوب الى محافظات أخرى تتواجد فيها مستشفيات متخصصة بأمراض الكلى. لا يكشف اللامي عن المعالجات التي وُضعت من قبلهم للحد من هذه الظاهرة، لكنه يقول ان بعض الضحايا الذين باعوا كِلاهم كانوا يبررون ما فعلوه بأن خسارة جزء من الجسد مقابل بضعة آلاف من الدولارات، أفضل بكثير من خسارة الجسد والروح معاً نتيجة الاضطرار للانخراط في العمل الإجرامي الخطر، أو ربما الموت جوعاً.

تكلف عملية نقل كلية واحدة كما يقول اللامي، قرابة الـ 25 مليون دينار (22 الف دولار)، تخصم منها أجور الجراحين المتخصصين وتكاليف المستشفى وعمولة الوسطاء، ولا يتبقى منها في النهاية سوى 5 الى 6 مليون دينار فقط (5 آلاف دولار) يتسلمها «المتبرع» الذي سرعان ما يعود الى التشرد بعد نفاد المال، ولكن هذه المرة بكلية واحدة.

ثغرات في القانون

مسؤولو داري المشردين، الخبراء والباحثون الذين شاركوا في هذا التحقيق، وهم قضاة ومحامون وعدد من ناشطي المجتمع المدني، يعتقدون ان ظاهرة التشرد ستتحول الى المشكلة الأكثر خطورة على مستقبل الاستقرار في العراق، فبعد إغلاق ملفات العنف المرتبطة بالتحولات السياسية السائدة الآن، سيتحول المشردون الى خزين إستراتيجي لعصابات الجريمة المنظمة والعصابات العادية على حد سواء.

يجمع هؤلاء على أن البدء بتعديل قانون المشردين ومعالجة ثغراته ينبغي الاّ يتأخر أكثر من هذا، لأنها الخطوة الاولى على الطريق الصحيح في معالجة ظاهرة التشرد. ويحدد الخبير القانوني عبد الوهاب الصائغ جملة من الثغرات التي يعتقد أنها «فاضحة» في قانون المشردين في العراق.

الثغرة الأكثر خطورة في قانون المشردين، كما يشير الباحث صائب العمري، هو إجبار المشردين الذي يبلغون السن القانونية على مغادرة دار المشردين من دون ان تكون هذه الدور أصلاً قد سلّحتهم بمقومات العيش، مثل المهنة او التعليم او ايجاد مأوى مناسب يحميهم من الانحراف او الجريمة التي تنتظرهم في الخارج.

لكن المحامي حسن شعبان يجمع بين الثغرات الموجودة في القانون وبين الخلل في التطبيق باعتبارهما «السبب الرئيسي في ما يشهده ملف المشردين من فوضى»،

فالمشردون يفتقدون بعد خروجهم من الدار لرعاية مؤسسات الدولة، ولا يخضعون لأي رقابة، وفي الوقت ذاته تواجههم مشكلة النظرة الدونية التي ينظر بها اليهم افراد المجتمع.
هذه التركيبة المعقدة لاوضاع المشردين خارج اسوار دور الدولة، تجعلهم اداة طيعة بيد التنظيمات المسلحة وعصابات السرقة وحتى لمخاطر الاستغلال من قبل مجموعات او اشخاص منحرفين، كما يعقب المحامي شعبان.

Facebook
Twitter