عبد الكريم ابراهيم
نثرت ميسان جدائلها على شواطىء الشعر ، حيث عباءات الماء التي اكلها تعب السنين والانتظار ، تحاول ملاعبة طفل غفا على (مواويل) الجنوب ، تحكي له قصة (المذار ) واصوات الفلاحين وهم يرددون اغنية حصاد قديمة ، تعلق في عنقه تميمة من (علي الشرقي ) و(سيد نور) ، ولكن الماء لايأتي مع غبش الكراكي المهاجرة صوب (هور الحويزة ) . لم يبق سوى الشعر نديما لعاشقي هذه المدينة الحافية الا من كرم اهلها ، واول عاشق نذر شعره قربانا في طلب يدها ، فتى جنوبي اسمر لم يجد غير افكاره كي يجود بها على حبيبته .انه الشاعر الميساني جمال جاسم امين وحوار الوجع والشعر والماء :
حوار :عبد الكريم ابراهيم
* الثقافة العربية هي نتاج الاجداد ، كيف الموازنة بين مفهوم المحافظة على هذا الارث ومفهوم التجديد الذي يبث دماء جديدة في الجسد العربي ؟
– لا توجد أمة بلا ارث ولا مشكلة في ذلك ، انما المشكلة في نظرتنا له , كيف نصنع منه انطلاقةً للتجديد؟ كيف نحافظ عليه بطريقة لا تفقده أهميته؟ أظن اننا لا نفعل ذلك الا عندما نجدده والا فان هذا الارث سيصبح لقيةً في متحف لا غير , بالتأكيد لا حياة حقيقية في المتاحف , الحياة في اللحظة التي تتجدد فإذا أردنا ان نحافظ على شيء لا سبيل الى ذلك الا بزجه في جريان اللحظات الحاضرة , هناك الكثير ممن يرفضون مساءلة التراث او نقده وهم بهذا الرفض يضعونه بمرتبة الأيدولوجيا الثابتة معتقدين أنهم حافظوا عليه بهذه الطريقة , المسألة ليست كذلك بل ان احياء التراث يجري من خلال مساءلته , المساءلة حوار خلّاق يبرز لنا الأوجه الناصعة . الثقافة العربية تمتاز بانها ماضوية أي أنها ترتد غالباً الى لحظة الأصل ذلك بسبب عجزها عن إنتاج لحظتها البديلة والمتواصلة مع تلك اللحظة غير ان التواصل هنا ليس بمعنى الاستنساخ المحض ، بل الاستشراف والتجديد الذي يقدم منظومات عمل مبتكرة .. لا أريد ان أتحدث عن الأسيجة الدوغمائية ولا عن الخرافة التي تسكن عقولنا حيث شغلت هذه المسألة أكثر من مفكر لكنني أقول باختصار :على العرب ان لا يعيشوا خارج التاريخ وهم لا يدخلون حركة العصر الا بإعادة مداولة وتوصيف مفاهيم الحداثة والتجديد , الكلام يحتاج الى تفصيل أوسع تطرقت إليه في مقالات وكتب سابقة .
*المشاريع الثقافية النهضوية تكاد تكون اشبه بتلال صغيرة وسط بيداء واسعة لايربطها رابط ، متى تكتمل السلسلة الثقافية في بودقة واحدة ؟
– تكتمل سلسلة هذه المشاريع عندما نبلور مفهوماً واضحاً حول ( النهضة ) وعندما يتحول هذا المفهوم الى حراك جمعي لا فردي نخبوي يحمل صيغة الشعار الذي يأتلق سريعاً لينطفئ سريعاً أيضاً , مشكلتنا مع الحداثة والتنوير أنها شعاراتية لا عمق لها في واقع الأمة , هذا الواقع الميّال للتكلس والذي يعيد انتاج أصنامه باطراد والمسألة هنا تتردد بين أحلام المثقفين أصحاب الشعارات ومن بيدهم القرارات الإجرائية التي باستطاعتها تغيير واقع الناس، أقصد السياسيين , تتعمّق هذه الهوّة عندما يترفع المثقف عن الأنشطة العومية لتصبح مقولة (المثقف العضوي) شعاراً هي الأخرى لا نمارسه بل نحلم به فقط , والسؤال الأعمق هنا هل يسمح السياسي المتكالب على سدة السطوة والثروة بإشراك منافسين له يحملون دعوى الثقافة والتنوير؟ هذه المجازفة يتجنبها المثقفون غالباً فيكتفون بدور الفرجة والتعليق أحياناً على (استعراض العالم) الذي يمر من أمامهم, لدينا مشكلات عويصة بصدد إنتاج المشروع النهضوي بعضها يخص المثقفين كما أسلفنا وبعضها الآخر يخص المنظومة الإجتماعية التي تفرز سياسييها ووعاظها وأمراء قبائلها الحزبية الى آخر قائمة معرقلات التحديث , نحتاج الى طاولة حوار عريضة تتبنى ثقافة المكاشفة لا التبرير والتستر وهذا لا يحدث في القريب العاجل ربما بسبب وجود عدد غير قليل من النفعيين سواء في حقل السياسة او الثقافة , النفعيون بالضرورة تربكهم مثل هذه المشاريع لأنها توقف سيل منافعهم الآنية .. الصحراء تمتد لأن الرمل أكثر من الأحجار الكريمة ولأن الأبار التي نحفرها بأصابع الألم لا تكفي لإنعاش واحة !
* ما البديل الثقافي في ادلجة الموقف وغياب الرؤية الواضحة في المشهد العراقي خصوصا والعربي عموما ؟
– ( البديل الثقافي ) تقصد مشروعنا الذي أطلقناه منذ خريف 2005 هو واحد من المقاربات النظرية التي نعتقد أنها تحاول إزاحة اللثام عن أقنعة الثقافات التالفة والمكرورة .. البديل الثقافي خطوة بإتجاه تعميق ثقافة نقدية تكرس المكاشفة بديلاً عن سياسة ستر العيوب التي دأبت عليها الأفكار الأيدلوجية الأحادية بطبيعتها , للثقافة العراقية هناك أوهام من بينها بالطبع الاعتقاد السائد بأن الفنون الابداعية وحدها الثقافة، بينما نحن نعتقد أن هذه الفنون تبقى عالقة من غير فضاء يستقبلها , هذا الفضاء هو مجال التاثير والفعالية التي نتوخاها ، والا ما جدوى الإبداع المنعزل , لنأخذ مثلاً على ذلك حداثة الستينيات في العراق كانت حداثة نصوص/حداثة مقاه بينما المجتمع يتراجع بفضل السياسات المنحرفة ، وهنا نسأل هل يمكن أن نعد عزلة المثقف شرفاً ثقافياً ؟ البديل الثقافي يعمل في هذه الفجوة لأنه يطالب بتحويل مقولات الثقافة الى فعالية ، وهذا لن يحدث الا بإعادة النظر بالثوابت , مفهوم الثقافة ذاتها / المؤسسات / العناوين الرديفة كالأكاديميات / علاقة المثقف بما يدور حوله دون أن نعني بذلك التوريطات الحزبية , هذه هي رسالة البديل الثقافي باختصار.
* النقد دواء مر نتناوله رغما عنا، واحيانا نبحث عن طبيب اخر يصف قائمة دواء جديدة ؟
– يفشل النقد غالباً إذا تعاملنا معه على أنه مقولة نظرية , النقد سلوك يجب أن تؤمن به الجماعة كي تتحرر من عُقدها التأريخية . لسنا الوحيدين من انتكس في هذا العالم ولكن المسألة اننا لا نراجع أسباب نكستنا بل نبررها غالباً او نحميها بقناعات أسطورية تمنع مراجعتها , لا يمكن أن تشتغل آلية النقد مع وجود الثوابت بل هناك مفارقة ضمنية في هذه المسألة .. النقد ببساطة يحتاج الى ثقافة قبول الآخر وهذا يتنافى بالضرورة مع كل أحادية او أدلجة تريد إن تكرس من خلال أطروحاتها ما يشبه الفرقة الناجية , تحدثتُ عن النقد بمعناه الثقافي وليس الأدبي الجمالي وهذا ما أراه أهم في لحظتنا الراهنة على الأقل .
* عندما تتحرك الاخطاء كالرمال ، لابد من وجود حزام اخضر يطوق هذا التصحر؟
– نعم هل باستطاعتنا أن ننتج حزاماً أخضر يحمينا من التصحر ؟ هذا هو جوهر السؤال , نحتاج هنا الى إنبات أشجار جديدة وان عملية (الإنبات) هذه تقودنا الى مداولة مفهوم ( التأسيس ) أو وعي التأسيس بحسب عنونة كتابي النقدي الصادر 2009 , هناك مضادات لفعل التأسيس بعضها مضمر والآخر معلن مكشوف وان تأثير المضمر أكثر خطورة .. أليست الأنساق الثقافية المضمرة التي تحدث عنها عبد الله الغذامي تُعد من عوائق هذا التأسيس المنشود ؟ أما في العراق فأن المشكلة تتعقد أكثر بفضل عقليات التصحر التي تبتلع كل محاولة لإنبات حزام أخضر بالمعنى الذي تحدثنا عنه .
* العمارة ياكل اوجاعها الماء في سنوات المحنة والمغامرات ، واليوم الماء نفسه يئن هو يردد مواويل مسعود (باهل العمارة شورطج ياروح )؟
– العمارة شأنها شأن المدن العراقية الأخرى , مدن مهملة تعطش وهي تغفو على أكثر من نهر , فارقها الهديل منذ ان أفسدت السياسات هدوء الناس .. العمارة تحتاج الى أكثر من شلال كي يغسل حزنها وغبارها , مدينة بشارعٍ واحد وأحزان لا تحصى , بعض المدن يتآكل فيها الناس ولا يحيون , وبصدد (مسعود العمارتلي) كان الغناء يرش مواويله على مساء المدينة ذلك قبل أن تنبح الحرب في شوارعها .. لقد أسكتت الحروب كلَّ صوت !
* هل للشعر (exp)؟،ام ان هناك سرا في هذا الكائن الاسطوري العراقي ؟
– الشعر رفيق الانسان وهو لا ينتهي الا بانتهائه , اما في العراق فان الحكاية مع الشعر أخرى , كيف يمكننا أن نتصور الحياة هنا بلا شعر , بالطبع بإمكان البعض أن يتصور ذلك ، أقصد فرسان ( البورصة ) وتجار السوق السوداء /تجار الحروب والحصارات ، هؤلاء الخارجين عن لائحة الجمال , لولا الشعر الى أين نذهب باحتجاجاتنا وعلى أي وسادة تنام الأحلام , الشعر وحده الذي يجعل المعنى يتعدد والحياة تتسع .
* هل بحثت عن جمال جاسم امين ؟ واين وجدته ؟
– لا يمكن إن يتوقف بحثنا عن الذات , لقد بحثت عن ( جمال جاسم أمين ) في كلِّ ما كتبت وهو موجود في كل نصوصي ولكن هل وجدته تماماً ؟هل اكتملت صورته؟ أظن حتى آخر لحظة في حياة المبدع يخالجه الشعور بأنه يحتاج الى لحظات أخرى كي يكمل الصورة , مثل هذه الصور لا تكتمل بل هي تنقطع بالموت لا غير , الموت إشارة حادة يعلن إنتهاء الفرصة والسؤال هل اغتنمنا هذه الفرصة بالكامل ؟ هذا ما نتوخاه ونخشى أن يفوتنا .. جمال جاسم أمين يحتاج الى حياة أقل صخباً كي يجد ذاته. لقد أكلت الحرب جزءاً لا يستهان به من أعمارنا , لا يسترد ولا ينسى انه ما يشبه ذكرى سرقة تعرضنا لها , بالفعل الحرب سرقة .
- info@alarabiya-news.com