العرب/ نحت الكاتب المصري إبراهيم عبدالمجيد اسمه داخل المشهد الروائي العربي بقوة عبر رحلة طويلة، قدم خلالها منجزا سرديا متسعا من خلال رواياته التي اشتبكت مع التحوﻻت الطارئة على المجتمع وإشكالياته وراهنه برؤى عميقة يسائل فيها التاريخ والواقع والذات وعلاقتها بالآخر. وجاءت الإسكندرية كمكان مهيمنة على مساحة كبيرة من منتج عبدالمجيد السردي بكل التغيرات التي شهدتها على مستوى المكان والشخوص.
الكتابة عند عبدالمجيد تبدو كأنها لعب دائم لا ينضب مع القلق، مراوغة بدلالاتها المتعددة وعوالمه الثرية التي يشيدها لتنتقل من المتخيل إلى واقع بديل، ولا يمكن لمن يدخل عالمه السردي إلا أن يخرج بانطباع عام هو أنه أمام أحد الساخرين الكبار، والضاحكين الذين يرسمون بهجة العالم مهما بلغ حجم الحزن والخراب اللذين يحيطان بنا.
ينفي عبدالمجيد تسلل السيرة الذاتية إلى أعماله، مؤكدا أن ما نتصور أنه السيرة الذاتية في كتاباته هو ناتج من شدة توحده مع شخصيات الرواية وليس من سيرته الذاتية. وما يمكن وصفه بالسيرة الذاتية في أعماله، كما يقول، ليس أكثر من مشاهدات في حياته لبشر من نوع غير عادي أحبهم، أو حكاية صغيرة جدا تتغير في الرواية لتصبح حكاية الشخصية وتأخذ أبعادا أخرى وتستدعي أحداثا أخرى هي من قلب الإبداع وليس الحقيقة.
وعن علاقته بالإسكندرية وتعددها وتنوعها المعرفي خاصة في حقبة الخمسينات والتي كانت المكان الحاوي للعديد من رواياته، يؤكد عبدالمجيد على أن الإسكندرية الآن ذكرى قديمة، لم تعد عالمية، ولم تعد مصرية. صارت مدينة سلفية متشددة تعاني من العشوائيات ومن تراكم الفوضى في البناء، ومن تريّفها نتيجة الهجرة من الريف إلى المدينة، دون أن تبذل الدولة أي مجهود لتطويرها. وحتى العلاقات الاجتماعية فيها لا تختلف كثيرا عن باقي أرجاء مصر، كما يرى ضيفنا، فهي علاقات فردية ومصلحية كحال مصر التي تعاني من التفكك الاجتماعي.
ولقد حدث أن أخذت الإسكندرية أنفاسها في ثورة يناير على يد شبابها، لكن للأسف ما جرى للثورة من فشل وتآمر عليها أعاد الأمور إلى أسوأ مما كان من قبل. الإسكندرية مثلا الآن هي أكبر مدينة في مصر بها مخالفات في البناء.
نتطرق مع الروائي إلى الحديث عن مساحة الشعر الذي يشغل أعماله الروائية ومدى تأثير هذه التشكيلات الجمالية والوصف على حيوية السرد وتدفقه، ليؤكد عبدالمجيد أن الشعر في رواياته تكرر مرتين في روايتين هما “طيور العنبر” و”الإسكندرية في غيمة”، والسبب أن أحد الأبطال أو الشخصيات شاعر، وليس هو. بالنسبة إليه شعرية الرواية ليست من الشعر لكن من بنائها. كيف تكون للرواية لغات عديدة بعدد شخصياتها؟. كيف تتابع الفصول لتعطي معنى؟، كيف تستخدم اللغة؟.
وهكذا، فشعرية الرواية ليست من شعرية اللغة لكن من شعرية البناء، ومن شكل الرواية وتكوينه.
في رواياته يعيش عبدالمجيد مع أزمات الإنسان الأكبر مع الكون والوجود والآخر من خلال الحياة العادية واليومية لشخصياته
يشغل المبدع دوما سؤال يفتش عن إجابة له من خلال طرحه في أعماله، هذا نجده واضحا عند نجيب محفوظ سؤاله عن الوجود من منحى فلسفي، عن ماهية السؤال الذي يشغل إبراهيم عبدالمجيد والهموم الجمالية والفكرية الأبرز التي ينشغل بها، يجيب عبدالمجيد “هناك فارق بين مقالاتي ورواياتي. في مقالاتي أنشد العدل والحرية والمساواة بشكل واضح، وأقاوم أو أكشف المؤامرات على الثورات وأدافع عن المعتقلين وغير ذلك مما نعيشه، لكن في رواياتي أعيش مع أزمات الإنسان الأكبر مع الكون والوجود والآخر من خلال الحياة العادية حيث الحب والسفر والغربة والمكان والزمان والسجن والترحل وغير ذلك. فالفن أرقى مما هو يومي وأجمل”.
حول المسافة بين المثقف والسياسي، وهل نجح السياسي الممثل للسلطة في تهميش دور المثقف؟ يجيبنا عبدالمجيد “في كل الدنيا هناك مثقف، السلطة يتبنى سياستها وأفكارها لكن المشكلة تزداد في الدول الدكتاتورية حين لا يكون هناك مجال للمثقف وممارسة حياته إلا من خلال أجهزة السلطة. يعني وزارة الثقافة والإعلام مثلا. ولذلك يظل الهامشيون هم الأفضل.
في مصر في عز سطوة السادات كنا نقاطع أجهزته وصحفه. مع مبارك تغير الأمر قليلا لظهور صحف خاصة ودور نشر
خاصة. والآن الأمر كذلك وإن طبعا امتدت يد الدولة للإعلام الخاص المرئي أكثر من المكتوب”.
ويضيف عبدالمجيد “كتاباتي وخاصة المقالات كانت ومازالت مخالفة للسلطة، لكن اسمي كأديب يجعلني أحيانا مدعوا إلى اللقاء هنا أو هناك مع مسؤول كبير أو صغير أذهب وأقول له ما أكتبه وأمضي. لا أكثر ولا أقل. أما انتمائي إلى اليسار فكان مرحلة أصبحت بعدها ليبراليا إذا جاز التعبير أؤمن بحق الجميع في الحياة والحرية والعدل والمساواة”.
وإن كان ثمة أدب نابع من روح مرحلة ما يسمى بالربيع العربي؟ يجيب ضيفنا مؤكدا ذلك، إذ يرى أن هناك أدبا وهناك فنا لكن الأمر يحتاج إلى وقت أطول، في رأيه. يقول “الفنون الآن تتقدم المشهد، الفن التشكيلي والغرافيتي على الجدران والكاريكاتير والأفلام القصيرة. وفي الآداب تقدم الشعر على النثر الذي يحتاج وقتا، فعدد الروايات لا يزال قليلا وكذلك القصص القصيرة وسوف يأتي وقت يكون فيه هناك إنتاج لجيل جديد شكلا وموضوعا سواء نجح الربيع العربي أم لم ينجح”.
ويعتبر إبراهيم عبدالمجيد أن سيادة الرواية على بقية الأجناس الأدبية أو سيادة الشعر ليست بيد أحد، لكنه المزاج العام. أما الجوائز فهي تحية جميلة للكاتب تعطيه الكثير من الراحة كما أنها تفتح الطريق إلى قراء أكثر، كما يرى.
القلق والكتابة
ونتساءل مع ضيفنا حول القلق والإرباك اللذين يشغلان الكاتب طول الوقت، ومتى يرتاح الكاتب؛ هل بإنجازه لعمل إبداعي يتخلص بذلك من التوتر والإرباك أم أن هذا القلق هو مصير المبدع؟ ليؤكد عبدالمجيد أن القلق هو مصدر الكتابة الأكبر. الكتابة عالم مواز أفضل مما نعيشه، ومع الانتهاء من عمل تنتبه إلى ما تعيشه فيبدأ قلق جديد وهكذا.
وعن جديده يقول الروائي “انتهيت من رواية بعنوان ‘قطط العام الفائت‘. نشرت منها فصلين. وهي عن ثورة قامت في بلد غريب يحمل اسما غريبا، وكيف تم التآمر عليها، لكن من خلال الفانتازيا والخيال. ففيها من الأبطال الخياليين مثل ما فيها من الواقعيين. الوحوش مثلا والقطط لها فيها دور كبير”.