د. أبوالعلاء عبدالمنعم الزوي
تعددت الدراسات والأبحاث الفكرية المتعمقة في النظريات والفلسفات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في العقدين الأخيرين حول مفهوم الديمقراطية ومضامينها وأهدافها وإفرازاتها المختلفة التي امتدت عبر أحقاب من مراحل التاريخ الطويلة انطلاقاً من موطنها الأم في المجتمع اليوناني القديم 0 (أثينا ) وهي حاضنة لعدد لايحصى من كبار الفلاسفة العظام الذين أثروا بأفكارهم وفلسفاتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية في إحداث متغيرات كبيرة كان لآثارها المباشرة وغير المباشرة قيام وسقوط الإمبراطوريات العظيمة التي شهدت تحولات مادية وتغيرات على المكونات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لمجتمعات بشرية عديدة تتوزع على جغرافية الكرة الأرضية ، بحيث لعبت دوراً مهماً وخطيراً في تغيير نمط” التفكير الإنساني” في كل مرحلة من مراحل التاريخ التي شكلت معالمه الفكرية والثقافية تجاه الحياة والفلسفات والنظريات السياسية والاجتماعية التي برزت كاتجاهات حضارية جديدة لترسم آفاق الحياة وفقاً لقوانين القوة التي قننت ( الاستبداد) وجعلته ممارسة شرعية.
هذه المرحلة الطويلة من التاريخ الإنساني بكل تفاعلاتها وتراكماتها الفكرية والثقافية كانت مليئة بالمنازعات والصدامات الدموية حيث إن ( الصراع الفكري) سرعان ما تحول إلى حروب دموية طاحنة استخدمت فيها أنواع الأسلحة كافة التي ابتكرها الإنسان لقتل أخيه الإنسان ـ وفقاً لكل مرحلة من مراحل التاريخ . هذا الصراع الفكري والحروب الدموية استمرت بأشكال متنوعة من المرحلة البدائية وحتى العصر الحديث المعاصر ـ والسبب دائماً هو وجود فئات اجتماعية قليلة تستحوذ على ثروة المجتمع والأراضي الصالحة للزراعة وحرمان السواد الأعظم من الشعب منها ، وهذه الفئات التي تمتلك القوة هي أيضاً المهيمنة على الساحة السياسية في ظل الأنظمة الديمقراطية التقليدية التي تستند على المزاعم القائلة بعزل مايسمى بجهل عامة الجماهير عن المعترك السياسي ـ وهكذا أصبحت السياسة وممارستها الفعلية حكراً على أشخاص يمارسونها باعتبارها حرفة حتى يتسنى بذلك إقصاء الجماهير العريضة عن ممارسة حقها الطبيعي في السلطة . إن الأنظمة الديمقراطية التقليدية المعاصرة تأثرت في نشأتها بأفكار واتجاهات المدارس الفلسفية القديمة وهكذا يمكننا أن نقول إن التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي المادي باعتبارها عمليات مرادفة ـ لكفاح الشعوب من أجل التحكم في الطبيعة لم تنجم عن عمل فردي على الإطلاق بالإضافة إلى أنه لاينبغي أن تستغل النزاعات التي تطرأ بين بني البشر كمطية للوصول إلى استعبادهم والسيطرة عليهم وبالتالي إرغامهم على تسليم حقوقهم وملكيتهم المقدسة إلى الغير تحت أي حجة من الحجج التي تروجها الأنظمة التقليدية بهدف فرض سيطرتها على الجماهير الشعبية . إن مجريات التاريخ وأحداثه تؤكد صحة ماذهبنا إليه لأن المنازعات والصراعات الدموية التي تنشأ بين بني البشر والجهل وعدم الشعور بالمسؤولية وانعدام الملكية الجماهيرية تعتبر أدلة اجتماعية تثبت صحة ذلك وتؤكد ماأسماه” ملز” ب (طغيان الأغلبية ) لأنه منذ ( العهد القديم) الذي ولد في المدن الاغريقية وحتى وقتنا الراهن لم تتح للأغلبية في الأنظمة الديمقراطية التقليدية فرصة الوصول إلى الحكم وهي وإن حدثت فهي صورية وبالتالي لم تتوفر لها أهلية ـ الفئة الحرة حتى تتمكن من المشاركة في الاضطلاع بالمسؤولية الديمقراطية الحقيقية أو أن يكون مرد ذلك هو تمكن البيروقراطيين الحاكمين والسلطويين من ـ الاستيلاء على السلطة وإقصاء الجماهير الشعبية صاحبة المصلحة الحقيقية في السلطة عنها وهذه ظاهرة تبدو واضحة لكل دارس لمسيرة الديمقراطية منذ انتهاء التجربة الديمقراطية اليونانية القديمة وحتى الوقت الراهن . ولذا نجدأن التجارب الديمقراطية التقليدية في العالم فشلت فشلاً ذريعاً في إرساء ( نظام عادل) يرتكز على أطروحات إنسانية تحترم كرامة الإنسان وحقوقه الطبيعية .
إن الديمقراطية كونها مفهوماً سياسياً تعرضت عبر مراحل التاريخ المختلفة لعملية تزييف مستمر حتى بدأت أخيراً في قوالب فكرية ذات أطر ومضامين مشوّهة ممسوخة وغير قابلة للحياة لأنها عجزت عن تلبية احتياجات الإنسان المعاصر. وهكذا أصبحت مشاكل الإنسان المعاصر أموراً تسلتزم وجود حلول جذرية ، ولعلّ من أبرز هذه المشاكل المستعصية مشكلة( أداة الحكم) وعدم توازن التطور في المجتمع ومشكلة توفير الأمن والاستقرار للمجتمع وإلى غير ذلك من مشاكل سياسية واقتصادية واجتماعية تفاقمت نتيجة لفساد طبقة السياسيين الذين حاولوا معالجةتلك المشاكل استناداً على مفاهيم ورؤى متباينة وأفكار أيديولوجية مرتبطة في الواقع بمدارس ونظريات سياسية فرضت وجودها على المسرح الدولي منذ انتهاء ـ الحرب العالمية الثانيةـ وهي مدارس أوجدت مناهجها القوى المنتصرة في تلك الحرب ـ وهذه القوى الغاشمة فرضت على المجتمع الدولي القوانين والنظم السياسية والاقتصادية ومناهج التعليم والتوجهات السياسية والثقافية وشكلّت النظام الدولي وفقاً لتطلعاتها التي تخدم مصالحها العليا دون النظر إلى مصالح الشعوب المغلوبة على أمرها التي حددت داخل نطاق مايعرف بدول العالم الثالث . وقد أوضحت في كتبي ومقالاتي السياسية والفكرية طبيعة وخصائص ووظائف تلك القوى الإمبريالية الدكتاتورية واستراتيجيتها العدوانية حيال الشعوب وهي استراتيجية قائمة على دبلوماسية ( العصا الغليظة والجزرة) . ومن هنا نجد أن المسار ( النظام الدولي ) الذى أجبر العالم على اتباعه بالقوة لم يكن ملائماً على الاطلاق لاحتياجات الشعوب التي أجبرت بعد ذلك على أشياء عديدة أخرى جعلتها تراوح في دائرة التخلف والجهل داخل إطار ما حد من حركتها في مسارات الحياة المختلفة . وتكرر هذا الأسلوب الاستعماري مرة ثانية عشية انتهاء ( الحرب الباردة) وماأصاب العالم من متغيرات سياسية دولية إثر تلاشي( الاتحاد السوفياتي) والمنظومة الاشتراكية التابعة له من على خشبة المسرح الدولي وما أوجده ذلك من طموحات جامحة لدى الإدارة الأمريكية من تبني صيغة جديدة من صيغ إدارة الصراع على المسرح الدولى بعد زوال ماكان يسميه الغرب الرأسمالي( الخطر الشيوعي) وتلاشي حقبة ” الحرب الباردة” وفي الوقت الذي اعتقد فيه الامبرياليون الرأسماليون بأنهم انتصروا وأصبح في مقدورهم قيادة العالم إلى حيث يريدون.. وجدوا أنفسهم هذه المرة وجهاً لوجه مع أطروحات “النظرية الجماهيرية” وما تتضمنه في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي عالجت مسألة السلطة من منظور جديد وماتطرحه من حلول جذرية لحل مشكلة ( أداة الحكم) وغيرها من القضايا من واقع حياة البشر ـ وكان من نتائج هذه المواجهة التاريخية تدافع الغرب الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية على ممارسة الوظيفة الاستعمارية علانية من خلال الاحتلال المباشر لكل من أفغانستان والعراق والتدخل العسكري في عديد المواقع الاستراتيجية إلا أن عملية التسرع والتخبط وحب فرض السيطرة والاستحواذ على ثروات الشعوب والتنافس الخفي والعلني بين الشركات الرأسمالية الاحتكارية الكبرى أدى إلى دخول العالم الرأسمالي لأتون أزمة مالية خانقة قوّضت النظام الرأسمالي وجعلته يترنح ويتخبط في سكرات الموت في وقت برزت فيه إلى السطح أطروحات ـ النظرية الجماهيرية – التي بشّرت بسقوط النظريتين( الشيوعيةوالرأسمالية) وعلى ضوء ذلك أصبحت الشعوب تطالب بالتغيير وتحقيق مصالحها من خلال امتلاك السلطة والثروة والسلاح وهي أطروحات جماهيرية جاءت بها النظرية الجماهيرية ، ودهش الغرب الرأسمالي عندما أدرك أن هذه المطالب الجماهيرية أصبحت تنادي بها التيارات الاجتماعية داخل المجتمعات الرأسمالية نفسها … ماذا يعنى كل هذا ؟! لاأعتقد أن الإجابة على هذا التساؤل قد تحيلنا إلى الدهشة فالأمر جد بسيط وبسيط جداً .. إن العالم فعلاً تغير ولم تعد الشعوب ترضى بالانصياع إلى جبروت القوى الظالمة وما أوجدته من نظم سياسية زائفة بهدف التحكم في مصائر البشر ، فكل السياسات الاستبدادية من إفرازات تعتبر نفسها ديمقراطية ( المجالس النيابية) وسيطرة طبقة ( البروليتاريا) وأنظمة الحكم الملكية الفردية الاستبدادية والجمهوريةإلى غير ذلك من أشكال ممارسة السلطة أصبحت مستهجنة وغير مقبولة .
إن الجماهير الشعبية في دول العالم كافة تطالب اليوم بنظام ( سلطة الشعب ) هذا النظام العادل الذي يمكن الشعوب من امتلاك كل مقاليد أمورها بصورة مباشرة حيث إن جماهير المؤتمرات الشعبية الأساسية تمتلك السلطة والثروة والسلاح ملكية جماهيرية ويشارك جميع أفراد الشعب بقدر من العدل والمساواة في امتلاك هذه المصادر الحيوية التي تشكل القوة المحركة والفاعلة في المجتمع الجماهيري . النظام الجماهيري جعل ولأول مرة في التاريخ جميع أفراد الشعب مالكين فعليين للسلطة والثروة والسلاح بيد الشعب ، والأرض ملك للجميع ، والبيت لساكنه ، والناس متساوون في الحقوق والواجبات يحتكمون إلى أسس وفلسفة نظام سلطة الشعب السيد .
إن المسألة الحاسمة فيما يختص بقضايا السلطة الشعبية عموماً تتمثل في أن الممارسة الواعية للسلطة الجماهيرية تخلق من مكوناتها الذاتية ـ حركة ( ديناميكية) تكفل وبصورة إبداعية حضارية إنسانية راقية معالجة كل المسائل الموضوعية والاجرائية بشكل ديمقراطي حر وفريد لم تعرف له البشرية مثيلاً على مدى العصور والأزمان .. ومعنى ذلك أن جماهير المؤتمرات الشعبية تمارس فعلاً السلطة ـ بعد أن تتمكن من تدمير الهياكل القديمة التي كانت تتمحور حول ملك فرد استبدادي يمتلك السلطتين التشريعية والتنفيذية ، وأقامة هياكل جديدة ترتكز على أطروحات النظرية الجماهيرية التي تجعل من الشعب هو الملك والآمر الناهي .. هذه هي النظرية الجماهيرية التي قدمت ماعجز عن تقديمه فلاسفة اليونان وفلاسفة عصر التنوير الفلسفي بالقرنين السابع عشر والثامن عشر وأساطين الفكر التقليدي المعاصر وجميع الفلاسفة الاصلاحيين الذين حاولوا تطبيق مفهوم ( السلطة الشعبية) إلا أنه ونتيجة لوجود قصور في نظرياتهم وضعف في أفكارهم لم يتمكنوا من حل المشكلة الأساسية التي كانت تواجه الجماعات البشرية على مدى العصور ألا وهي مشكلة ( أداة الحكم) بطريقة ديمقراطية مباشرة وعادلة .. إن نظام( سلطة الشعب) وامتلاك الجماهير ملكية جماهيرية مقدسة لكل مكونات السلطة ولثروة والسلاح والأرض دون وسيط وفقاً لأطروحات النظرية الجماهيرية قدّم أعظم الحلول النهائية لمعاناة الشعوب فالشعب الذي كان يعاني من سطوة وجبروت ( أدوات الحكم) ومن سيطرة الحكام والملوك الاستبداديين يصبح في ظل النظام الجماهيري هو المالك الحقيقي والسيد الذي يرسم السياسات العليا التي تحقق له مصالحه وأهدافه وأحلامه المشروعة إن ” المؤتمرات الشعبية هي الوسيلة الوحيدة للديمقراطية الشعبية وإن أي نظام للحكم خلافاً لهذا الأسلوب – أسلوب المؤتمرات الشعبية – هو نظام حكم غير ديمقراطي ـ إن كافة أنظمة الحكم السائدة في العالم الآن ليست ديمقراطية مالم تهتد إلى هذا الأسلوب ـ المؤتمرات الشعبية باعتبارها هي آخر المطاف لحركة الشعوب نحو الديمقراطية ـ المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية هي الثمرة النهائية لكفاح الشعوب من أجل الديمقراطية – المؤتمرات الشعبية ليست من صنع الخيال بقدر ماهي نتاج الفكر الإنساني الذي استوعب التجارب الانسانية كافة من أجل الديمقراطية.