د. خليل عبدالرحمن
صحيح أن الكلمة الأخيرة في البلدان الديمقراطية تبقى للمواطن ، إلا أن مشاركة أغلبية المواطنين في الأمور السياسية لا تتجاوز الظروف العادية ، ممارسة التصويت ، ومعنى ذلك أن دور المواطن يقتصر غالباً على تزكية حزب من الأحزاب ، دون أن يمتدّ إلى المشاركة في صنع قرارات هذه الأحزاب وبرامجها.
ويرتبط بذلك انتشار ظاهرة العزوف عن السياسة عند المواطنين ، فالمواطن أصبح يبتعد أكثر فأكثر من المجالات السياسة ، ويترك اتّخاذ القرارات السياسية للخبراء والاختصاصيين في هذا المجال ، فبرامج الأحزاب أصبحت تصنع داخل (مختبرات( يشرف عليها اختصاصيون ، ولا يمكن لعموم المواطنين ، بل وحتى للأعضاء العاديين في الأحزاب المشاركة فيها أو التأثير على اتجاهها. إن خطورة هذه الوضعية تكمن في أن الانفصال المتزايد للمجال السياسي عن عالم العيش اليومي يؤدي إلى أن يصبح هذا المجال خاضعاً لقانونيته الخاصة بدل أن يكون خاضعاً مباشرة لمتطلبات عالم العيش ، وهذا ما يفسر أن القرارات السياسية كثيراً ما تأخذ بعين الاعتبار ميزان القوى والحسابات الانتخابية ، ولم يعد سرّاً أنه – كثيراً – ما يتخذ حزب سياسي ما قراراً فقط من أجل كسب أصوات فئة انتخابية معينة ؛ كما لم يعد من النادر أن تضطر الأحزاب السياسية إلى تغيير بعض مواقفها المبدئية ، حتى لا تفقد قاعدتها الانتخابية ، وحتى تتلاءَم مع التوجه الانتخابي العام ، هكذا ينشأ لدى المرء الانطباع بأن هدف الحزب السياسي لا يبقى تحقيق برنامج سياسي ، أو مشروع مجتمعي معين ، بل المحافظة على وجوده واستمراريته على مستوى تمثيليته الانتخابية في مختلف المؤسسات. وفي نفس السياق يمكن أن نشير إلى أن إسناد المناصب السياسية بات يخضع في كثير من الأحيان لاعتبارات ضيقة ، مثل ميزان القوى داخل الأحزاب وفي ما بينها ، أو وضعية التحالفات والتكتلات ، كما أن الحملات الانتخابية لا تعتمد بالدرجة الأولى على شرح البرنامج السياسي للحزب ومشروعه المجتمعي ، بل على أساليب تقنية وعلى وسائل التعبئة والدعاية الجماهيرية التي تسعى إلى صنع الرأي العام ، وتوجيه المواطنين ، كل هذه العناصر تبين أن التعامل مع المشاكل المطروحة في المجال السياسي أصبح هو الآخر يتخذ طابعاً تقنياً ، حيث يرتبط بهذا الطابع انفصال المجال السياسي ، وخبرائه عن عالم العيش ، وتصير الحسابات السياسية أكثر تأثيراً في توجيه العمل السياسي من مشاكل الناس اليومية. يحتل مفهوم (الانتخابات الديمقراطية) ، عند كثير من الباحثين موقع الصدارة في النظم الديمقراطية ، وعلى الرغم من اهتمام الكثيرين بهذا المفهوم عند حديثهم عن الديمقراطية ، فإنه لا يوجد حتى اليوم تعريف متفق عليه بين المهتمين بالانتخابات ، أو مجموعة من المعايير القاطعة التي تحدد معالم الانتخابات الحرة والنزيهة ، كما لا توجد منهجية واحدة يمكن من خلالها وضع مؤشرات محددة وشاملة للانتخابات الديمقراطية ، فحكم (هربرت ماركوز) في دراسة له حول الديمقراطية الغربية في موجتها الثانية) بأنها ديمقراطية قامعة ( وإذ نظرنا إلى الانتخابات في الموجة الليبرالية الثالثة فنجدها اختياراً غير حرّ يهدف إلى شرعنة من كان يمكن تنصيبه ، أي أن مهمة تنصيب وكلاء العالم الأول أصبحت أكثر وثوقاً نتيجة اختلاق وسائل للفرض ، ولجعل التعيين يبدو اختياراً ، بمعنى آخر تستطيع الانتخابات تنفيذ مشيئة الإمبراطورية والمصالح الاقتصادية الغربية أكثر من قدرة الطغيان التقليدي. على الرغم من ذلك يدعي الليبراليون الجدد بأنهم أكثر المدافعين عن الديمقراطية غيرةً وحماسة مستندين إلى قانون ينص بأن الديمقراطية هي )التنافس بين النخب السياسية من أجل الوصول إلى السلطة عن طريق الحصول على التأييد الشعبي في الانتخابات القائمة على التنافس( ، وهذا التعريف قريب جداً من تعريف جوزيف شومبيتر في كتابه : “الرأسمالية والاشتراكية والديمقراطية” على أنها “ترتيبات مؤسساتية للتوصل إلى قرارات سياسية يحصل الأفراد من خلالها على سلطة اتّخاذ القرار عن طريق المشاركة في انتخابات قائمة على التنافس” ، أيْ أن الديمقراطية هي قضية شكلانية معزولة عن الظروف الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية السائدة في المجتمع. استخدم البرجوازيون قبلهم مصطلح “الديمقراطية” لخداع الجماهير ، وتمكين الطبقة الرأسمالية الحاكمة من الهيمنة على المجتمع ، والهيمنة تعني قدرة الطبقات الحاكمة على غرس قيمها في الطبقات المحكومة ، وتحويل هذه القيم إلى بديهيات تميز العصر ، وقد اكتسبت كلمة “هيمنة” معنىً إضافياً ، وهي قدرة الطبقة الحاكمة على إقناع الطبقات المحكومة بعدم وجود بديل لها ، مهما كان رأيها في النظام الاجتماعي السائد ، ومهما كانت درجة تغريبها عنه ، فالهيمنة لا تعتمد على الموافقة بقدر ما تعتمد على الإذعان. كما استعملت مصطلح الديمقراطية في أميركا قبل الاستقلال لخداع الجماهير كما يقول “إدموند مورغان” الذي يصف الديمقراطية على أنها “صمام أمان ، فهي فسحة تتيح للمستضعفين الشعور – بعض الوقت – بأن لديهم سلطة ، وهم – عادة – محرومون منها ، سلطة نصفها سراب ، وكانت كذلك بمثابة طقس لإعطاء الشرعية ، أي حق قيام العامة بتجديد موافقتهم على بنية حكم الأقلية”. إن الديمقراطية بمعناها الواسع لا يمكن ممارستها في ظل الليبرالية وأيديولوجية الأسواق الحرة ، التي تسلب الإنسان معظم حقوقه الاقتصادية والاجتماعية ، وتبقيه على الدوام في قلقٍ خائف غير واثقٍ من غده ، تهدّده البطالة والعوز ، ويعيش قُرْب خط الفقر أو تحته مسلوب الحقوق الأساسية والضمانات الحياتية التي حققتها الأجيال السابقة عبر نضالات مصبوغة بالدم ، محروماً من مؤسسات التغطية الاجتماعية ، ومن التنظيمات النقابية الفاعلة ، وتعيق الليبرالية الجديدة قيام أحزاب سياسية ذات برامج اقتصادية واجتماعية وسياسية تمثل المصالح الحقيقية لأوسع الجماهير. في كتابه الشهير “الرأسمالية والحرية” يقول أحد آباء الديمقراطية الليبرالية “ميلتون فريدمان” : “إن صناعة الربح هي جوهر الديمقرطية ، وإن أية حكومة تتبنى سياسات معارضة للسوق هي معادية للديمقراطية مهما كان حجم الدعم الشعبي الذي تتمتع به ، وبالتالي من المفضل قصر دور الحكومات على وظيفة حماية الملكية الخاصة ، وفرض العقود ، وحصر الجدل السياسي في مسائل هامشية ، أما المسائل المهمة والحقيقية كإنتاج الثروة وتوزيعها ، والتنظيم الاجتماعي ، فيجب أن تكون من اختصاص قوى السوق” ، تلك هي الليبرالية الجديدة ، النموذج السياسي والاقتصادي الذي يكاد يطبع المرحلة المعاصرة بطابعه الخاص الذي يعني على الصعيد الوطني ، ولاحقاً على صعيد العلاقات بين الدول ، الحرية المطلقة للعمليات الاقتصادية التي تنفذها قوى قليلة تهدف إلى السيطرة على مناحي الحياة الاجتماعية من أجل رفع فائدتها الشخصية إلى الحدود القصوى. كما انتقد “فون حايك” في كتابه “النظام السياسي لشعب حر” ، الديمقراطية بشدة التي صارت صنماً وآخر “التابوهات” ، إن أزمة المجتمعات الديمقراطية بحسب رأيه تأتي من أن الكلمات قد فقدت معانيها ، فالدولة كانت محدودة بوساطة الدستور والأعراف لكنها تنحرف تدريجياً نحو ديمقراطية لا حدود لها ، والأغلبية حلت محل القانون ، والقانون نفسه فقد معناه ، وصار يخدم العدالة الاجتماعية التي استحوذت على الديمقراطية ، لكن العدالة يواصل “حايك” وهم وعصا سحرية لا أحد يعرف ما هي ، وبفضل هذا المصطلح المائع يعتقد كل جماعة أنه من حقها مطالبة الحكومة بميزات خاصة ، فتتحول هكذا حكومات إلى مؤسسات إحسان ، ورجال السياسة باتوا يوزعون الخيرات لشراء الأنصار ، وبالتالي لم يعد رجل السياسة ممثلاً للمصلحة العامة ، بل مدير لصندوق تجاري ؛ لأن الرأي العام هو سوق ، حيث فيه تحاول الأحزاب الحصول على الحد الأقصى من الأصوات بواسطة توزيع الهبات ، هكذا بحسب رأي “حايك” ، صارت الديمقراطية لا أخلاقية ، وغير عادلة وباتت تتجه نحو الدكتاتورية ، كما أن المواطنين في المجتمعات الغربية توقفوا عن كونهم مستقلين ، وصاروا مخبولين يعتمدون على صدقات الدولة.. يضيف “حايك” بأن هذا الانحراف في الديمقراطية يقود في نهاية المطاف إلى الفقر العام والبطالة ؛ لأن الموارد المتوفرة من أجل إنتاج الثروة سوف تتقلص حتماً ، يقود هذا التحليل اقتصادياً إلى إلغاء المساعدات التي تقدمها الدولة إلى تقليص إنفاقها ، ولكن هذا غير ممكن إذا ظلت الديمقراطية على ما هي عليه ، إذن يجب التخلي عن الديمقراطية واستبدالها ب(الديمارشية) ، أي ديمقراطية لا تخضع لصناديق الاقتراع ، ديمقراطية لا تعيق أداء اقتصاد السوق ، لقد سلبت الديمقراطية العتيقة الناس سلطانهم ، وها هي ذي تجرد مما بقي لها من فاعلية ، والليبرالية الجديدة سلبت الناس ثروتهم ، وها هما ذان تختصمان ، فهل يظهر المسروق عندما يتخاصم اللصوص؟.
ليس هناك مسلمة واحدة يزعم الغرب أنها عصرية إلا وتكون كاذبة ، وفي مقدمتها مسلمات الديمقراطية ، والدفاع عن حقوق الإنسان والحرية ، لقد كانت الديمقراطية – دائماً – ، خدعة الأقلية التي تملك العبيد والثروات ، وما يسمونه “ديمقراطية آثينا” ، ويقدمونها لنا مثالاً يحتذى به ، كانت في حقيقة الأمر حكومة تمثل عشرين ألف مواطن حر مقابل مائة ألف عبد محروم من كل حق ، إنها ديمقراطية الأسياد لا ديمقراطية الشعب ، ونادى إعلان “استقلال الولايات المتحدة” بالمساواة في حقوق كل البشر ، وبعد هذا الإعلان المهيب ، حافظت ولمدة قرن كامل على الرق ، أما التمييز العنصري ضد السود فما زال قائماً حتى يومنا هذا ، إنها ديمقراطية للبيض فقط ، والسود محرومون منها ، أما إعلان حقوق الإنسان والمواطن الذي صدر عن الثورة الفرنسية ، فقد أكد بكل شموخ أن “كل الناس يولدون أحراراً ومتساوين في الحقوق” ، ولكن الدستور الإقطاعي الذي شكل الإعلان مقدمة له ، استبعد من حق التصويت ثلاثة أرباع الفرنسيين ؛ لأن فقرهم جعل منهم “مواطنين سلبيين ” ، إنها ديمقراطية الأغنياء لا ديمقراطية الفقراء. نجد الموقف نفسه في ميدان حقوق الإنسان ، لقد جرى تعداد هذه الحقوق في “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان” الذي صدر عن الأمم المتحدة عام 1948 م ، إلا أن كل هذه الحقوق تعابير متناقضة بشكلٍ جلي مع الواقع ، هؤلاء الذين يدعون لأنفسم أنهم المدافعون عن حقوق الإنسان على امتداد العالم كله هم الأكثر إرهاباً في العالم ، والأشد انتهاكاً لحقوق الإنسان. ما الذي أبقته ديمقراطية الليبرالية الجديدة من حقوق الإنسان ، وهي التي ظلت طويلاً تعد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان واحداً من أهم انجازاتها في الالتزام بتطبيق مواده الاثنتين والثلاثين ؟ وما الذي تغير حتى تعلن حالة طوارىء عالمية تحمل الكوكب كله إلى قلعة محاصرة بالأسلحة الفتاكة والمنظومات الصاروخية المتطورة والأقمار الصناعية التجسسية أو تجعله أشبه بجزيرة كبيرة محاطة بحاملات الطائرات ؟
إن استقرار العالم وأمنه معرضان للتهديد أكثر من أي وقت مضى ، وحريات الأفراد والشعوب عرضة للخطر ، لقد ناضلت البشرية طويلاً من أجل أن يتوقف العنف وتسترد الحقوق من أجل أن تغدو إنجازات الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أشجاراً باسقة في غابة الحضارة الإنسانية الجميلة بغناها وتنوعها لا أن تتحول إلى نباتات للزينة لا يرتجى منها أي نفع.. إن حقوق الإنسان كلما تخلصت من الديمقراطية المزيفة التي يروج لها ، واتجهت نحو تطبيق الديمقراطية الحقيقية المباشرة ، فإن ذلك يجعل تحقيق حقوق الإنسان ممكناً ، بل يصبح من الضرورة تحقيقها ، فمن مصلحة كل دول العالم أن تسعى إلى إلغاء أسلوب مشاركة الفرد غير المباشرة في إدارة الشؤون العامة في بلاده عن طريق التمثيل النيابي أو الانتخابات الواردة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، والإبقاء على أسلوب المشاركة المباشرة ، أسلوب الديمقراطية المباشرة عن طريق ممارسة الفرد للسلطة بنفسه.