الانتخابات العراقية على الأبواب والشبابيك، الاستعدادات الرسمية على قدم وساق.. أما مواقع التواصل الاجتماعي الشعبية فقد ضجّت بصور ملصقات ورسوم كاريكاتير كيدية، غلّفت مذاق دعايات الحملات الانتخابية بجميع أنواع التوابل المحلية والإقليمية. ومع كثرة المرشحين وتداخل اتجاهاتهم وأهدافهم المعلنة والمخفية أو المخيفة، أصبحت المادة الدعائية الصادمة والمبتكرة الوسيلة الأسرع والأنجح للتعريف بهم؛ حيث ظهرت في صورة حملات دعائية تتبع أحدث ما توصلت إليه نظريات العلم الحديث في التأثير على الجماهير المنكوبة، مستخدمين في ذلك جميع أنواع الأسلحة النفسية التقليدية والحديثة؛ ابتداء بنظريات علم الدعاية والإعلان ذات الالوان الضاجة مرورا بمخطوطات علم النفس العسكري الفرويدي والاتصال الجماهيري القسري، التفافا على شعارات الثورة الروسية ولافتات الحرب الأهلية الأميركية وانتهاء بأقدم الرموز اللغوية المهجورة في قواميس ملفات المخابرات الأندونيسية، في سعي حثيث ومسعور لإقناع (المستهلك) المغلوب على فقره بشراء سلعتهم الفاترة التي لا تغني من جوع ولا تمنع من خوف. هذا السّعي المحموم يؤكد على أن بعض البشر ما زال مدفوعا بغرائزه الوجودية وأهمها غريزة البقاء وربما البقاء إلى الأبد.
وضمن قائمة الأسلحة الدعائية التقليدية تأتي (تقنية) التكرار في المقدمة؛ حيث حرص الناخبون على (لصق) طلعتهم البهية على طول جدران الوطن وعرضها، ليجدها المواطن العراقي أينما حل في الصباح والمساء في موقف الباص وفي دكان البقال، عند إشارة المرور العاطلة أوفي واجهة مطعم فلافل، فالحكمة الدعائية تقول إن تكرار المشهد ذاته قد يجعله مألوفا أكثر من اللازم، خاصة أن الشعوب الطيبة اعتادت على وجود الوجوه (المألوفة) التي تأتي ولا ترحل إلا مع طلوع السر الإلهي.
حين يفضل البعض تطبيق مفعول التكرار والتغيير في الوقت ذاته؛ حيث يتم تكرار لصق الملامح ذاتها في الشوارع مع تغيير بسيط في رتوش الصورة تتبع الشروط المكانية لتواجدها، فقد يظهر المرشح أحيانا في صورة عصرية ليستأثر بإعجاب السيدات المثقفات و(المتعصرنات) في حي غير شعبي، في حين يظهر في منطقة انتخابية شعبية وهو يضع على وجهه ملامح دينية وإكسسوارات (رجعية) ليدغدغ بها مشاعر المتشددين والمتعصبين. أما إذا كانت المرشحة سيدة فلا بأس بالظهور في صورتين إحداهما بالحجاب الشرعي والأخرى بالملابس الرسمية، وبالطبع، يترك للمواطنين حرية الاختيار بين النارين.
يتضاعف حجم الإعلان وتأثيره عندما يقترن بمعزز (حسي) وملموس، حيث يستخدم بعض الناخبين الذين يعدون الشعب بالرفاهية والعيش الرغيد، الهدايا العينية كإطار جاذب لصورتهم الانتخابية. وكان أحد المرشحين بارعاً في لصق صورته على خلفية دجاجة هزيلة كانت حصة لكل مواطن ينجح في اختياره من بين العشرات، والدجاجة في اليد- كما هو معروف- خير من خروف – وإن كان محشيا- على الشجرة.
على أن الاختلاف المنظور بين فئات الشعب، قد يمثل عثرة عنيدة من شأنها أن تعرقل مسيرة الناخبين الذين لا يجيدون فن التأثير في المتلقي، لذلك لجأ بعض الناخبين والناخبات إلى مخاطبة الفئة (الهدف) مباشرة من دون الالتفات إلى الأهداف الأخرى بعيدة المنال، فالتركيز مطلوب في هذه المرحلة الحرجة؛ لذلك اضطرت (بعض) المرشحات الفاتنات إلى استخدام سلاح الجمال الفتاك للإطاحة بأصوات الناخبين، الذين يؤمنون بأن اللص الجميل أخف ظلاّ من اللص القبيح؛ فالجمال في العراق بريء حتى تثبت إدانته.
من ناحية أخرى، يجب أن يأخذ بنظر الاعتبار في عملية الاتصال الجماهيري العوائق التي تقف في وجه نجاح الناخب، وأهمها الأشخاص المستهدفين وذلك من خلال تحليل لخلفياتهم الثقافية والعقائدية على وجه التحديد، حيث يتم التوجه للأشخاص بناء على مفاهيمهم وطرق تفكيرهم ومعتقداتهم. أحد الناخبين، تسنى له بذكاء منقطع النظير القفز على بعض الأوتار الحساسة لبسطاء الشعب، مستخدما الإيحاء الديني في التأثير عليهم، حين أقسم بمقدساته بأن ترشيحه للبرلمان كان أمرا (سماويا) خارجا عن إرادته.
في حين أن بعض المرشحين قد يحلو له الاستفادة من تجارب الآخرين، مع إدخال بعض التحسينات وإضافة شيء من التوابل إلى وجه الطبخة. وفي سابقة خطيرة، استخدمت بعض المرشحات (المحافظات) بكسر الفاء، حيلة التخفي لجمع أكبر عدد ممكن من الأصوات حيث ترشحن غيابيا من خلال الظهور بشكل (مقنّع) بتشديد النون، أو استعرن صورا وأسماء بديلة للمشاركة في الانتخابات؛ فبدلا من الكشف عن الاسم الصريح والصورة الشخصية، اختبأت المرشحة خلف اسم زوجها أو شقيقها أو ابنها فصارت أم فلان وزوجة علان وشقيقة فلان العلاني، وكأنها بذلك تقوم بنشر قائمة نعيها في جريدة غير رسمية. أما فئات الشعب المغدورة، فيتوجب عليها استخدام حيل (الباراسيكولوجي) لاستطلاع أبعاد الشخصية المقنّعة لغرض منحها صوتا مقطوع الأوتار.
يخفى على البعض هوس بعض الشرائح العراقية بقراءة الكتب، وهو مرض وراثي تناقلته الأجيال عبر أزمان سحيقة تمتد إلى أجدادهم البابليين والسومريين الذين اخترعوا الكتابة. بعض المرشحين، فقد طريقه إلى شارع المتنبي، وهو الملتقى الرسمي لمحبي (التهام (الكتب من جميع الأصناف، فأسقط منشورا دعائيا فلسفيا لحملته الانتخابية سهوا في المناطق النائية، حيث وقع بطريق المصادفة على واجهات محلات السمكرية ومكبات الأدوات الاحتياطية للشاحنات، تماما، في منتصف الطريق الذي يبعد خطوات عن سوق الخضراوات الشهير، لذلك لم يجد وسط ضجيج الحياة اليومية المرة ما يكفي من آذان صاغية أو أحداق بارعة لهضم رسالته الفلسفية.
القاعدة الذهبية تقول: كن صادقا مع نفسك وجمهورك فحبل الكذب القصير لا يؤدي إلى البرلمان، خاصة إذا كان المرشح من جماعة الوجوه المألوفة والمواقف السياسية المأثورة والمفضوحة للقاصي والداني، حيث يتم الترشح للبرلمان هذه المرة بالأسماء والأفعال الحقيقية ولا بأس من المحاولة فالمحاولات السابقة باءت بالنجاح الذي سحق الشعب المظلوم. بالفعل، ظهرت بعض القوائم والتيارات السياسية التي تحتوي على التسلسل ذاته لمرشحين سبق لهم التعمد ببركة البرلمان، والذين وقعوا في شرك الأخطاء الفادحة من دون أن يرف لهم ضمير؛ فإحدى القوائم مثلا تضم في نصابها، صاحب الكذبة الشهيرة لتصدير الكهرباء إلى دول الجوار، إضافة إلى صاحبة أشهر حذاء في البرلمان وصاحب أكبر فضيحة في الدنمارك، وهكذا كما تبدو مكونات القائمة الذهبية لهذه المجموعة بحسب التصنيف الشعبي لها.
على الرغم من كل هذه (الفوضى) الدعائية، فإن الشعب ما زال يحتفظ في جعبة قميصه المقطوع بصورة واحدة لا تتغير لأصحاب البرلمان السابقين واللاحقين، الصورة التي تحدد الأهداف والأدوات والضحايا.
وعلى الرغم من هذه الحقيقة الدامغة، ما زال البرلمانيون يحققون أهدافهم في ضربات جزاء متاحة مع غياب واضح لفريق الدفاع ووجود مرمى متاح بشبكة مهترئة، وما زالت علامات الاستفهام والتعجب تطرح على مائدة (الفضائيات) من دون إجابات واضحة. ترى كيف نجح وينجح هؤلاء؟ ولماذا تمتد يد المواطن البسيط في صندوق الاقتراح لانتخابهم؟ ولماذا تصطبغ أصابع الناخبين والمنتخبين بعد انتهاء فترة التصويت بلون الحبر الأسود؟ على الرغم من أن لون الدم الأحمر هو الخيار الذي يلق بها؟