الحقيقة النفسية للزعيم عبد الكريم قاسم – القسم الاول

الدكتور حسين سرمك حسن

 

باحث وطبيب نفسي

 

 

 

 

 

 

 

لا أحد من مناصري الزعيم أو من خصومه أنكر نزاهته العالية وتزهده في المغريات السلطوية على الإطلاق

 

 

 

 

 

الجواهري: قاسم رجل مزدوج ومتناقض فهو السمح والقاسي ، الصدوق والغادر ،العنيد والمسالم

 

 

 

 

 

علي الوردي:الشعب العراقي امتاز على الشعوب الأخرى بابتكاره لطريقة السحل والمهاجمة بالساطور

 

 

 

منظر الدماء وأنين الجرحى وعويل النساء يتجاوب مع ما في أعماق نفوس المجانين القتلة من الرغبات المكبوتة

 

 

 

 

 

مدير مدرسة قاسم: قاسم تلميذ هادىء يبتعد عن مخالطة زملائه منعزل فقير الحال مكتئب النفس عابس الوجه ، ضعيف البنية

 

 

 

 

 

هديب الحاج حمود: قاسم كان مدرسا ناجحا في درس اللغة الإنكليزية لكنه لم يقم أية علاقات صداقة مع أي شخص

 

 

 

 

 

محمود الدرة: زملاء قاسم من الضباط لقبوه بـ (كريم أبو جنّيه) لشدة تحسسه وحذره من الاخرين

 

 

 

 

 

جاسم العزاوي: قاسم كان يستبدل فنجان قهوته بفنجان ضيفه خشية  أن يكون الخادم قد دسّ له السم

 

 

 

 

 

عبدالكريم قاسم لم يدخن ولم يشرب الخمر ولم يستغل منصبه لاقتناء الأموال والعقارات وجاء بملابسه العسكرية ومات فيها

 

 

 

 

 

عبدالكريم قاسم:  أنا أعرف كل شيء ، أنا عندي حاسة سادسة تستطيع أن تتنبأ بالغيب

 

 

 

 

 

من هي الفتاة المعلمة التي خطبها عبدالكريم قاسم قبل الثورة ورفضته وبسببها امتنع عن الزواج؟

 

 

 

 

 

صحفي اميركي : إنه زعيم غريب في البلاد العربية وخطيب غير لامع ، صوته رفيع ووقوفه على المنبر قلق

 

  

 


حتى هذا اليوم ، ومنذ مقتل الزعيم (عبد الكريم قاسم) عام 1963 ، يرفض كل المثقفين العراقيين بمختلف قطاعاتهم التوقف ولو للحظة عند الحقيقة الكلية للزعيم (عبد الكريم قاسم ) . إن معضلة المثقف العراقي تتمثل في جانب منها بسمة الإنبهار المفرط الذي لا يضع غشاوة على البصر بل على البصيرة أيضا ، ويمنعه من رؤية كل جوانب الحالة التي يتناولها .
وإذا كان هذا الإنبهار سمة سلبية عندما يحصل لدى الإنسان البسيط ، فإنه لدى المثقف الذي من واجبه تاصيل الوعي الحاد والموقف الموضوعي من الظواهر يمثل كارثة حقيقية . وهناك أيضا محاولة الاسطرة والصعود بالقائد السياسي إلى مرتبة المنقذ . لقد منح الإعلام العراقي ومن ورائه المثقفون العراقيون الزعيم قاسم (55) لقبا بعضها من أسماء الله الحسنى . ومن الجدير أن نذكر ملاحظة خطيرة هي أن مجلس الآلهة في أسطورة الخليقة البابلية قد منح الإله الشاب (مردوخ ) (55) اسما أغلبها من اسماء الله الحسنى من أجل أن يخلصهم من الآلهة (تعامة ) ويقضي عليها . وحتى المواطن البسيط يميل إلى هذا الإفراط في التأليه ، فعلى سبيل المثال لا أحد يعرف اسم الشاعر العامي الفطري صاحب الأهزوجة في مدح أحد شيوخ العشائر : ( موحان الله ويمشي بـﮒـاعه – أي أن الشيخ موحان هو الله ويمشي في أرضه – ! ) . ومن الحوادث التاريخية المعروفة هو أن الخليفة (الوليد بن عبد الملك) حين قرر بناء الجامع الأموي ، طلب حضور ممثل عن كل مصر من الأمصار في الدولة للمساهمة في وضع حجر الأساس وذلك بوضع حجر واحد في الأساس . لكنه لاحظ أن أحد الأشخاص يحمل حجرين بدلاً من الحجر الواحد فسأل عنه فقيل له هذا عراقي . فقال: يُفرطون حتى في الطاعة !! .
إنني أعتقد أن من الجرائم الكبرى التي نقترفها كمثقفين بحق الشعب العراقي والعقل العراقي في حاضره ومستقبله أن نستمر في هذا التمسك بالصورة الأحادية الزاهية والبعيدة عن الحقيقة للرموز السياسية العراقية وفي مقدمتهم الزعيم عبد الكريم قاسم . لا أحد من مناصري الزعيم أو من خصومه أنكر نزاهته العالية وتزهده في المغريات السلطوية على الإطلاق ، ولعل إجماع المناصرين والخصوم هذا ، وهو حالة فريدة تاريخيا ، هو وسام شرف لهذا الرجل . لكن يجب أن لا تغيّب سمة (النظافة) و (الطهارة) الحقائق الأخرى السلبية عن أذهاننا . فهناك آلاف بل مئات الألوف من الأشخاص (النظيفين) في شتى القطاعات ، فهل يصلحون كلهم ليكونوا رؤساء جمهوريات ورؤساء وزارات مثلا ؟؟
وقد يكون منحى النظافة والزهد دفاعيا أو معبرا عن (طفولية) العقلية القيادية . إذ ما معنى أن يضع الزعيم راتبه لدى مرافقه أو سائقه ؟ ما معنى أن رئيس الدولة يسكن في بيت مستأجر ؟؟ هل نعيش في عصر الخيام والخلافة الراشدة حيث المتطلبات البسيطة ، أم في عصر حديث له التزاماته واشتراطاته ومستلزمات عمله ؟؟ لا نريد قصورا رئاسية كما فعل (صدام حسين) ، ولكن بيتا لرئيس دولة هو الأنموذج الأبوي – وليس العاجز المستأجر – لأفراد الشعب .
وسأترك كل هذه الأمور والتساؤلات الإجرائية جانبا ، وأركز على الجانب العلمي النفسي التحليلي . فكل القرائن التي تابعتها تشير بما لا يقبل اللبس إلى أن الزعيم عبد الكريم قاسم كان يعاني من ” اضطراب الشخصية – personality disorder
  ” الذي يجعله لا يصلح لتبوء دور الرئاسة وقيادة بلد معقد وصعب مثل العراق . بكل بساطة وبصراحة مؤلمة اقول كان الزعيم مريضا نفسيا !! ولعل أول من انتبه إلى هذه المحنة هو العلامة الراحل الدكتور علي الوردي الذي – وعلى عادة أسلوبه التقربي غير المباشر – لم يُفصح بصورة مباشرة – لأسباب معروفة – عن تقييمه ، لكن من يقرأ السطور وما بينها وما خلفها وترابطاتها بما قبلها وما بعدها في كتابه ( الأحلام بين العلم والعقيدة ) وهو كتاب علمي نفسي ختمه – ويا للغرابة – بالحديث عن مآسي السحل والتمثيل بالجثث بعد ثورة 1958 وتوّجه بكلمة تحية للزعيم عبد الكريم قاسم . وأجد من الضروري جدا أن أنقل لكم ما استخلصته عن موقفه هذا في مخطوطة كتابي (علي الوردي : النهضة والتنوير ) وتحت هذا العنوان :
( الموقف الثوري بين الرقاعة والجنون ) :
يضعنا الوردي – وهذا الأمر هو جوهر الثورة الفرويدية – وامتدادا لمقارنته بين السوي واللّاسوي المستتر والممتد على “متصل – contimuum
 ” لا توجد فيه حدود قاطعة بين الطبيعي والمرضي ، بل هناك تداخل طيفي يجعل من الصعب ، بل من المستحيل أحيانا الفصل القاطع بين الاثنين في حالة التأمل الهاديء والتحليلي المتمعن ، فكيف الأمر حين يحاصر الفرد بحشود تهتف بصخب ، وبأحداث مهولة مليئة بالعنف والدماء الخانقة التي تشوش حتما صفاء نظرته إلى الأحداث والمتغيرات ، وكيفية الحكم عليها وتقييمها ؟ .
فالوردي يرى أن الكثير من الوجهاء – وفي العادة فإنه يقصد بالوجهاء هم الجلاوزة ، جلاوزة السلطة العصيين على كل حساب وفوق أي مراقبة ، وهذا يؤكد أفكار الوردي الثورية والانقلابية – هم من طراز “الرشيد” . فهم يحملون في أعماق أنفسهم بذرة جنون قوية ولكن وجاهتهم المزيفة تستر عليهم . أنهم قادرون على تغطية تناقضهم السافل بالفخفخة المصطنعة وشموخ الأنف ، وإذا تكلموا حاولوا أن يتخذوا لهم لهجة فخمة ذات رنين . فيستمع إليهم الناس ويحسبون أنهم من أرباب الدهاء والنظر البعيد . ويشير الوردي إلى أنه عرف من أمثال هؤلاء الوجهاء عددا لا يستهان به في العهد البائد وفي العهود السلطانية السابقة له . فقد أتاح لهم الوضع الشاذ أن يتسنموا المناصب العالية أو المقامات الاجتماعية المحترمة ، واعتاد الناس على مهابتهم والقيام لهم في كل مجلس . وكانت نتيجة ذلك أن أصبحت أزمة الأمور أحيانا في أيدي مجانين .
ولكن بعد خطوة تالية يخزنا الوردي ونحن نقرأ قراءة بعدية – بعد نصف قرن – بمقارنة ماكرة لن نستطيع التقاط أبعادها دون أن ندرس بدقة مكر أسلوبه أولا ،
ولعبه المسموم على حبال التأويل التي كلما بعدت عن الموقف الراهن – ثورة 1958 وزعيمها – اقتربت منه بشدة ثانيا .
يتحول الوردي ، وتحت غطاء البحث العلمي ( البريء ) إلى المقارنة بين الرقاعة والجنون فيشير إلى أن الرقاعة هي نوع مخفف من الجنون – هذا رأي لم يطرح في الثقافة العربية آنذاك وصولا إلى هدف سياسي مبيّت شديد الخطورة – قد تؤدي ببعض الناس أحيانا إلى جنون صارخ حين تقسو عليهم الظروف الاقتصادية والاجتماعية . فالرقاعة تتمثل عادة بالأقوال والأفعال ” الفطيرة ” التي يتقزز منها الناس ، ولكن صاحبها يظن أنها خير ما يمكن أن يفعله إنسان . ومن الممكن أن نقول أن مثل هذه الأقوال والأفعال الرقيعة تشتد على الناس حين يكون الرقعاء من أصحاب العروش الموروثة أو الثروات العريضة أو الوجاهات المزيفة . فوق ذلك فإن الوردي يرى أن الرقاعة – وهو مصطلح مخفف اجترحه للتعبير عن هدف بعيد المدى في كتابه يستطيع القاريء اللبيب الوصول إليه من خلال التأمل الهاديء وإحكام النظرة الكلية .
فمن بلايا الرقاعة – حسب قناعة الوردي – أنها قد تكون معدية . فإذا كان السلطان ، وهو رأس المجتمع ، رقيعا ، أخذ الوجهاء والقواد والوزراء يحتذون به قليلا أو كثيرا . إنهم قد وصلوا إلى مكانتهم ( العالية ) عن طريق التزلف للسلطان وتمجيد أفعاله وأقواله الرقيعة . وهم لذلك يتوقعون من أصحابهم وحاشيتهم أن يعاملوهم على منوال ما عاملوا هم به سيدهم السلطان ( عز نصره ) . وتصبح عادة التزلف إذن تقليدا اجتماعيا عاما يعامل به كل فرد من هو أعلى منه مقاما . وبهذا تنتشر الرقاعة بين الناس انتشارا فظيعا . وتقع معرة هذه الرقاعة العامة على الطبقة السفلى من الفقراء والمساكين . إنهم يجب أن يجدوا عذرا لكل عمل رقيع أو ظالم يصدر من الطبقة العليا ، أما أعمالهم فيجب أن يتحملوا وزرها كاملا غير منقوص . وستنمو الفكرة خطوة خطوة للوصول إلى كلمة الوداع في الأحلام وتحديدا كلمة التحية الموجهة إلى الزعيم عبد الكريم والتي تستحق وقفة خاصة .
وقفة :
يقول الوردي في ختام كتابه : ( الأحلام بين العلم والعقيدة ) :
(( عبد الكريم قاسم :
يجدر بي قبل أن أنتهي من كلمة الوداع هذه أن أشير إلى موقف الزعيم عبد الكريم قاسم في هذه المرحلة الاجتماعية الهامة من تاريخنا . فلقد أعلن الرجل غير مرة أنه فوق الميول والاتجاهات ، وأعتقد أنه صادق فيما قال ، ولكني مع ذلك لا أستطيع أن أعد موقفه هذا خاليا من الدقة والحراجة . إنه ليس قائد حزب إنما هو قائد بلد تتصارع فيه الأحزاب ، وهو إذن معرض للحيرة أكثر من تعرض أي قائد حزبي لها . وكلما تأملت في حراجة موقفه هذا شعرت بالثقل الهائل الموضوع على عاتقه – ساعده الله !! . إنه لا يستطيع أن يتجاهل أهمية الحماس الشعبي في تأييد الثورة التي تكاثر عليها الأعداء ، وهو لا يستطيع كذلك أن يجاري هذا الحماس إلى الدرجة التي اندفع بها المتعصبون المتسرعون . بين يديه من جهة بلد يحتاج إلى استقرار ، وبين يديه من الجهة الأخرى ثورة تحتاج إلى تأييد . ولابد للرجل من أن ينظر في هذه الجهة تارة وفي تلك الجهة تارة أخرى . إني أشعر بالعجز في سياسة صف واحد من الطلاب حين يشتد الجدل بينهم ، فكيف بالرجل وهو يقود ثورة كبرى كثورة 14 تموز وفي مجتمع كالمجتمع العراقي . ومهما يكن الحال فإننا يجب أن نحني رؤوسنا اعترافا بما وهب الرجل من مهارة في قيادة سفينة البلد بين هاتيك الأمواج المتلاطمة ))(1) .
وهنا يتطلب الأمر منا وقفة ” تفكيكية ” لكلمة الوردي هذه وهي – كعادته في أسلوبه الإلتفافي – مدوخة ومربكة . يتكرر التوظيف الذي حصل لموضوع علمي صرف هو القوى النفسية الخارقة والذي عالجه في كتابه : ” خوارق اللاشعور ” وانتقل منه وبوساطته إلى نقد الوضع الإجتماعي القائم ثم الوضع السياسي وانتهى بدعوة الجماهير المسحوقة إلى الثورة . وهو مقترب غريب كما قلنا سابقا لكنك لاتشعر بأي افتعال في الإنتقالات التي يقوم بها الوردي وهو في طريق وصوله إلى الغاية الثورية الختامية . الآن يتناول الوردي موضوعا علميا – نفسيا أصلا ثم اجتماعيا – هو موضوع الأحلام .. فينتقل منه إلى معالجة شؤون الثورة والسياسة والغوغاء ، ليختم كتابه بكلمة موجهة إلى الزعيم ، قائد الثورة ، عبد الكريم قاسم !! . إن دعوة الوردي لنا – كقراء – إلى (( أن نحني رؤوسنا اعترافا بما وهب الرجل من مهارة في قيادة دفة سفينة البلد بين هاتيك الأمواج )) قد جاءت بعد أن تحدث طويلا عن أفعال الغوغاء الشنيعة من سحل بالحبال وتقطيع بالسكاكين ، وبعد أن أعلن بوضوح أنه – أي الوردي – لا يتفق مع الزعيم في قوله أنه فوق الميول والإتجاهات لأنه مسؤول عن شعب وبلد يجب أن يوفر له الإستقرار . وفي هذه الكلمة الأخيرة تحدث عن حماسة المتعصبين ، ولكنه قبلها بأسطر تحدث وتحت عنوان واضح التهكم : ” وزير ثوري ” عن وزير المعارف الذي دعا جماعة من الأساتذة – من بينهم الوردي – إلى الإجتماع به في ديوان الوزارة ودعاهم إلى ” ثورة ” فكرية واجتماعية توازي الثورة السياسية والاقتصادية ووعده الجميع بالتأييد – والوردي منهم – لكنه يقول بأنه نكث بوعده لـ ((أننا اليوم في حاجة إلى كتاب من نوع آخر غير هذا النوع الذي يبتغيه سيادة الوزير )) فمن هو هذا الكاتب الذي ” من نوع آخر ” الذي تحتاجه الثورة ؟ . يأتي جواب الوردي غريبا جدا فهو يقول : (( فهذا أوان كاتب يندفع في صيانة الجمهورية بأسلوبه الصارم البليغ ، وليس هو أوان كاتب ” بارد ” يقف على التل متفرجا يتحرى عن العيوب فيصيب فيها مرة ويخطىء مرات)) (2) .
وهذا الموقف كيف انتقلنا إليه ؟
لقد وصلناه من فقرة ” خطأ شائع ” التي أدان فيها الوردي المفكرين الذين يزعمون أن لا حاجة لنا بالبحث عن عيوب شعبنا .. والتي – أي الفقرة – ختمها بالقول إننا نحتاج إلى ثورة فكرية مثلما نحتاج إلى ثورة سياسية واقتصادية . ويحذّر من أن الثورة لن تستطيع مواصلة السير في طريقها المنشود ما لم ترشد الشعب إلى ما يكمن في عقولهم الباطنة من رواسب قديمة تنخر في كيانهم الاجتماعي – هل من بينها الرواسب التي دفعت وزير المعارف إلى دعوة الأساتذة للحماس والهتاف للثورة ؟؟ – وكأن الوردي يحذر من مصير الثورة المقبل في حالة الإستمرار في الإنقياد للجموح الشعبي – وأكثره غوغائي كما يقول – الإنفعالي .
لكن كيف أوصلنا الوردي – وهذه السمة من السمات الأسلوبية الفريدة للوردي – إلى فقرة الـ ” خطأ شائع ” ؟ أوصلنا من فقرة : ” اعتراض وجيه ” التي يستعرض فيها اعتراض الآخرين عليه بأنه إنما يضر بشعبه حين يستعرض عيوبه في كتاباته في هذه المرحلة الثورية .. وأوصلنا إلى هذا الموقف من فقرة ” استدراك ” التي أشار فيها إلى أنه شاهد جماهير غفيرة تملأ شوارع بغداد وهي تهتف بالسلام وتكاد تذوب هياما به ، ولكنها كانت في الوقت ذاته تحمل الحبال تهدد بها من لا يؤيدها في دعوتها السلمية )) (3) . ..
وحين نمضي بطريقة الوردي الإستدراجية – ولكن بطريقة تراجعية الآن – فسننتقل من المباركة والتأييد إلى الإدانة والنقد الصارم الذي لم يلائم ” الوزير الثوري ” . فهو في حلقة أكثر تقدما في الصفحة (381 ) يقارن بين ما حصل في الصين في أثناء الثورة الشيوعية بقيادة ” ماو ” وبين ما حصل في العراق على أيدي الشيوعيين فيقول :
(( ومهما فعل أهل الصين بمثل هذا المتهم فإنهم لا يجرأون على مهاجمته بالساطور أو على جره بالحبال … سمعت أحد شبابنا يقول مفاخرا : ” إن الشعب العراقي امتاز على الشعوب الأخرى بابتكاره لطريقة السحل)(4) .
وفي استدراج تراجعي مستمر إلى معالجة مجازر كركوك و ” دناءة الغوغاء ” و ” أنا والغوغاء ” وإلى ” قراء عهد الثورة ” التي يقول فيها إن الحماس الذي انتجته الثورة يتطلب مؤلفين من نوع جديد يجارون الناس في حماستهم وهو مديح تحت صيغة الذم .. فهو يضرب مثلا بالمؤلفين الذين يغيرون أسلوبهم تبعا لتغير الأحوال بـ ” لينين ” الذي يسميه ” الأستاذ ” ويبين كيف كتب الأخير كتابا في العهد القيصري ثم وضع له مقدمة جديدة بعد القضاء على ذلك النظام وأصدره من جديد . يقول الوردي بمقارنة مسمومة :
(( وهنا يجب أن لا ننسى أن لينين كان زعيم حزب وصاحب مبدأ قبل أن يكون مؤلفا . وهو بهذا يختلف عن المؤلفين المحترفين من أمثال كاتب هذه السطور . إننا نريد أن نكتب لكي نعيش ، بينما هو يعيش من أجل حزبه ومباديء حزبه . هو عبقري ونحن من سائر الناس حيث قد نخشى على أنفسنا وأولادنا حتى من عواء الكلاب)) (5) .
وكيف وصلنا إلى إدانة سلوك لينين المغلفة ؟ من خلال ” كلمة الوداع ” التي يشير تعريفها بالألف واللام إلى قرار لا رجعة عنه ، وهذا ما حصل مع الوردي الذي امتنع عن النشر منذ عام 1959 وهو عام إصدار كتابه ” الأحلام بين العلم والعقيدة ” ، إلى عام 1965 حيث أصدر كتابه: “دراسة في طبيعة المجتمع العراقي “. يقول :
(( لابد لي من كلمة وداع أودع بها القاريء في خاتمة كتابي هذا الذي هو فيما أعتقد آخر كتاب أخرجه إلى الناس . ويخيل لي أن الكثيرين من القراء سوف لا يأسفون لهذا الوداع ، ولعل البعض منهم سيفرح به)) (6) .
هل يعقل من كاتب ثوري ومصلح اجتماعي انتظر التغيير الثوري والإنتصار لمصالح المسحوقين المذلين المهانين سنوات طويلة وتحمل في سبيل ذلك الكثير من الخسائر والتضحيات أن ينفض يديه من الكتابة ومن مشروعه الذي يعده – ومباشرة بعد الثورة التي مهدت أفكاره وجهاده الفكري لها – فاشلا لا يلائم الثورة بعد مدة وجيزة من انبثاق هذه الثورة الأمل ولا يعود إلى نضاله الفكري إلا بعد سقوط الثورة بسنوات – وتحديدا في عام1965 – ؟
لا يمكن فهم موقف الوردي المحيّر إلا إذا راجعنا الفصل الأخير من كتابه هذا والذي انتقل منه من الحديث النفسي والاجتماعي العلمي إلى الحديث السياسي أو – لنقل – الحديث الاجتماعي السياسي . عنوان هذا الفصل الأخير هو : (الجنون والمجتمع ) وموضوعه الأساس هو : الجنون . لقد تحدث الوردي أولا عن ” فتاك ” الجاهلية الذين كانوا يقتلون الناس ويسفكون دماءهم ومنهم شعراء كبار كالشنفرى وتأبط شرا . وحين جاء الإسلام قضى على هؤلاء المجانين الأبطال كما يفهم الوردي وظل الأمر كذلك في عهد الخلفاء الراشدين (( ولكنهم بدأو يظهرون من جديد عندما حاول معاوية أن يرجع بالعرب إلى سيرتهم الجاهلية الأولى)) (الأحلام) . ثم يشير إلى أن أمثال هؤلاء المجانين القتلة لا يخلوا منهم تاريخ الأمم الحديثة خصوصا في فترات الظلم والإستبداد حيث يصيرون جلادين أو سجانين أو محققين يتلذذون بتعذيب ضحاياهم . وفي إحالة مهمة يقول :
(( ويكثر هؤلاء أيضا في الفترات الصاخبة التي تضعف فيها سلطة القانون ، فتراهم عندئذ يقودون الغوغاء يحرضونهم على الإعتداء والتعذيب والمثلة – هذا ما حصل فعليا في العراق بعد 1958- وهم حين يفعلون ذلك يشعرون بالسعادة ، كأن منظر الدماء وأنين الجرحى وعويل النساء تتجاوب مع ما في أعماق نفوسهم من الرغبات المكبوتة)) (7) .
لكن السيكوباثيين من القتلة لا يصنفون في علم النفس والطب النفسي ضمن المجانين ، وقد أقحمهم الوردي في هذا الفصل لأمر في نفسه . يرتبط هذا الأمر حين يختار أنموذجا استدراجيا آخر يتعلق بـ ” جنون الملوك ” الذي يستهله بالقول أنه طالما حدث في التاريخ أن يرتقي العرش ، في أمة من الأمم ، ملك مجنون ، ولكن رعاياه المساكين لا يعرفون عن جنونه شيئا: ((وإذا خرج إلى الناس أحاط به الفرسان وتقدمت بين يديه المواكب وسار خلفه الوجهاء، وينظر الناس إليه فيظنون أن الحكمة قد تجسمت فيه ، وهم لا يدرون أنه في حياته يسلك سلوك الأطفال)) (8) .
ويقدم مثلا على هؤلاء الظالمين والمجانين ” المتلذذ بأمر الله هارون الرشيد ” ولكن هذا أيضا موضوع ذو صلة واهنة بالجنون بمعناه العلمي الدقيق .. لكن هذه المراجعة ستبقي السؤال قائما وأكثر إلحاحا وهو كيف بدأنا بالأحلام ووصلنا إلى الجنون لنصل أخيرا إلى السياسة ؟
.. أراهن على ذكاء ونباهة القارىء اللبيب..
لكن لا أدري لماذا يتغافل كل المثقفين العرقيين خصوصا الشيوعيين منهم عن الفصول الطويلة التي ثبتها شاعر العرب الأكبر (الجواهري) حول الطبيعة المرضية لشخصية الزعيم قاسم . وإعلانه الصارخ بأنه صدم صدمة مروعة عندما شاهد وهو يريد العودة من الكوت إلى بغداد صبيحة الثورة صور الزعيم الجديد .. فإذا هو الضابط الذي كان يزوره في فندقه في لندن ، ويرجوه أن يتوسط له لدى الحكومة لإعفائه من كلفة العلاج من مرض لم يفصح عنه الجواهري . لكنه يعود للحديث عن هذا المرض الخطير بصورة صريحة في القسم الثاني من ذكرياته حيث قال في بداية الفصل الثالث (من هو عبد الكريم قاسم ) :
( وعودة إلى حياة عبد الكريم قاسم الخاصة ومدى مفارقاتها وانفعالاتها ، فلربما أكون قد أتيت بالشيء الجديد الذي لا أتذكر أن أحدا قد تطرق إليه فضلا عما ينبغي أن يُشدّد عليه لما له من خطورة وأهمية ، ألا وهو المرض شبه العضال الذي شاءت الصدف لأن أكون أول الشاهدين عليه في لقاءاتي معه بلندن قبل أكثر من عشر سنوات من ثورته حين كان يستعرض امامي فحوص الأطباء وكشوفاتهم وهو في معرض التشكي من وزارة الدفاع التي لا تريد أن تتحمل نفقاتها . وأكثر من هذا وبعد أكثر من عشر سنين من ذلك فقد كنت من الشهود النادرة على عقابيل مرضه هذا وذلك عندما قام وفد من الأطباء الكبار الذين استحضروا له من الاتحاد السوفيتي ، وطبعا بكل سرية وتحفظ ، بزيارة خاصة لي في بيتي بالأعظمية بحكم الصلة الوثيقة بيني وبينهم حتى أنني استثمرت وجودهم لإجراء فحص دقيق على ما كانت تشكو منه زوجتي ، كان هذا المرض نفسه حتى بعد أن شفي منه كما هو المفترض ظل ينعكس على طباعه المتقلبة الغامضة أحيانا وهذا ما غفل عن ذكره الكثيرون . وأن هذا الرجل كان مؤمنا ويصوم عن قناعة ويترفع عن مظاهر البذخ إضافة إلى أنه كان أحد القلائل الذين يستعملون الخطط الذكية لتصفية معارضيه . وباستطاعتي أن اسميه الرجل المزدوج والمتناقض ؛ فهو السمح أحيانا .. القاسي أحيانا أخرى ، الصدوق مرة ، الغادر في غيرها ، العنيد تارة المسالم والمتسامح تارة أخرى – ص 175 ) (9) .
وبعد أن يؤكد الجواهري على نظافة الزعيم قاسم وطيبته وانتمائه إلى الطبقات الفقيرة وانحيازه التام لفقراء الشعب يشير إلى أن معرفته بالزعيم ليست بحاجة لمؤرخين أو كتّاب لأنها تستند إلى المعايشة المباشرة . وهناك الكثير من الدلائل التي تؤيد الآراء التي أوردها الجواهري عن عدم استقرار شخصية قاسم وسرعة استثارته وفورانه وشكوكه بالأشخاص المحيطين به وعمله على تصفيتهم ، وإحساسه بالعظمة ( وفي بطانتها شعور لائب بالنقص يمكن ردّه إلى الفقر الماحق الذي عاشه في طفولته كما سنرى ) وحبّه للاستعراضية والمديح ، و” السلوك الاندفاعي – impulsive
  ” حيث يأتي التفكير المتأمل بعد الفعل في بعض الأحيان ، والعصبية ، وتقلب المزاج بين البهجة والاكتئاب ، والإنطوائية ( وكانت سمة مميزة له في طفولته وفي أيام الدراسة بشهادة معلميه واساتذته ومنهم أستاذه “شيت نعمان” الذي قال إن قاسم وهو تلميذ كان يتميز بانعزاله وانطوائيته وفقره وثيابه المهلهلة .. كما أكد ذلك مدير مدرسته الثانوية طالب مشتاق حيث وصفه بقوله : قاسم تلميذ قديم من تلامذتي في المدرسة الثانوية المركزية في بغداد سنة 1927، إنه تلميذ هادىء يبتعد عن مخالطة زملائه ويقضي فترة التنفس في زاوية منعزلة ، مظهره يعلن عن فقر الحال وفقدان المال ، مكتئب النفس عابس الوجه ، ضعيف البنية ، مشروم الشفة العليا من جهتها اليسرى ، وهذه العاهة على ما يبدو سببت له شعورا بالنقص جعلته منقبضا على نفسه ، يتجنب الاجتماع برفاقه وبالناس أجمع … كما قال عنه شقيقه “حامد قاسم” : عبد الكريم طول عمره منعزل عنّا ، ألححنا عليه بالزواج فرفض .. وخلال عمله في قضاء الديوانية التابع للواء الديوانية كمدرس لسنة واحدة 1931-1932 ذكر السيد هديب الحاج حمود: عبد الكريم قاسم كان مدرسا ناجحا في درس اللغة الإنكليزية ، وكان منعزلا عن زملائه وعن سكان القضاء ، فلم يقم أي علاقات صداقة مع أي شخص في قضاء الشامية بالرغم من أن زملاءه المعلمين كانوا يترددون على مجالس الضيافة في القضاء ) (10)، وفي نوبات البهجة تحصل حالة الضغط الكلامي والأحاديث المطولة المستفيضة التي تنتابها الشطحات والفكاهة والتشفي ، كما تحصل حالة من انتفاخ الذات والتعالي وكثرة النشاط والحركة .. أما في نوبات الاكتئاب فيحصل ميل للعزلة والحزن والتشاؤم وتتصاعد الشكوك وتتضخم حد تصور وجود مؤامرات تحاك ضده وقد تتطلب فعلا استباقيا .
وحالة العزلة والانطواء استمرت في الكلية العسكرية .. وذكر محمود الدرة أن عبد الكريم قاسم كان يلقّب من قبل زملائه حين كان تلميذا في الكلية العسكرية ، وحين كان ضابطا صغيرا في الجيش باسم “كريم أبو جنّيه ” .. وقال عنه مرافقه وسكرتيره الشخصي جاسم العزاوي إنه كان حذرا ويشك حتى في نفسه ، وطالما نقل فنجان القهوة الذي يضعه الخادم أمامه من مكانه إلى أمام أحد الضيوف خوفا من أن يكون الخادم قد دسّ له السم . ويضيف قائلا كانت ثقافته محدودة ولذلك كان يشطح أحيانا في خطاباته وتعليقاته وكان يسد هذا النقص من ذكائه وتحمله المشاق ، وهو شخص كتوم وحذر جدا لا يختلط بأحد قبل الثورة .. لا يدخن ولا يشرب الخمر .. وكان زاهدا في المال فلم يستغل منصبه لاقتناء الأموال والعقارات وإنما جاء بملابسه العسكرية ومات بها .
وأنا أرى أن حتى التمسك بالملابس العسكرية قد يشكل مظهرا مرضيا .. إذ لا تصلح الملابس العسكرية لكل المناسبات ، ورؤساء الحكومات في العالم أجمع إذا كانوا عسكريين فإنهم يلبسون ملابس مدنية في بعض المناسبات .. ومن الأمور التي تؤكد هذا التوجّه العصابي التعويضي هو أن قاسم ظل يصر على وصفه بالزعيم إعلاميا رغم حصوله على رتبة لواء ليكون ” زعيما ” عسكريا ومدنيا في وقت واحد .
ولو كانت هذه السمات موجودة في شخص عادي من عامة الناس فإن المعاناة منه ستنحصر في الشخص ذاته وفي دائرة ضيقة جدا من أقرب الناس إليه ( الوالدان .. الإخوة .. الزوجة والأبناء ) .. لكن أن يُصاب بها شخص يقود دولة وشعب فهذه كارثة حقيقية ، وهذا ما حصل في العراق بسبب مرض الزعيم . يقول الجواهري :
(وقبل كل شيء وأنا أفكر في كل كلمة أقولها وأحسب لكل واحدة منها حسابا ، لم يكن بل ولا يجوز أن يكون هذا الضابط الطيّب والمريض هو الذي يغامر ويخاطر بنفسه وبالعراق كله وبمصائر الناس فيه ، ولربما كانت هذه المفارقات نفسها هي التي ساعدت فيما حبك حوله من أساطير على حد سواء في أيامه الأولى من عهده وحكمه بداية من أسطورة (القمر) ووجهه المطبوع عليه ، ومرورا بما خالط هذا العهد القصير بسنينه الأربعة وشهوره الخمسة أو الستة والممتدة كما قلت إلى نهايات يبدو أنها ستطول وتطول ومهما كان الأمر وكما يقول المثل : فالحبل على الجرار – ص 189 ) (11)
إن اضطراب النوم هو من ميزات الشخصية الهوسية الاكتئابية في وجهها الهياجي الهوسي .. وهذا ما أشار إليه الكثيرون من المقربين من الزعيم حيث قال بعضهم أنه لم يكن يهتم بمواعيد النوم أبدا .. فتراه مرة ينام في الساعة السابعة مساء ، ومرة أخرى ينام في الساعة السابعة صباحا .. وفي بعض الأحيان كان يوقظ مرافقه عند منتصف الليل للخروج في جولة في شوارع بغداد !!
وفي الوجه الهوسي هذا يتخذ الفرد قرارات عجيبة غريبة مشفوعا بالإنتفاخ النرجسي المرضي الذي ينتعش لديه .
يقول جاسم العزاوي :
(لقد كان قاسم في غروره ما يبعث على الضحك ، مثلا كنّا في الطريق إلى افتتاح مؤتمر المحامين العرب في بغداد ، وفتح سائق السيارة جهاز الراديو وإذا بالمذيع يعلن وقوع انقلاب في تركيا ، ولم نكد نصل إلى مكان المؤتمر ويتبين قاسم الخبر وقف وقال إن العراق يؤيد الانقلاب الذي وقع في تركيا . هكذا بلا درس ولا تفكير ولا معلومات ولا عقيدة معينة . وكذلك وقعت المحاولة الإنقلابية في الحبشة ، وإذا بقاسم يعلن استنكاره لها بعد خمس دقائق من سماعه النبأ في الراديو ، وعندما سألناه عن سرّ موقفه في استنكاره الانقلاب ، أجابنا : ” أنا أعرف كل شيء ، أنا عندي حاسة سادسة تستطيع أن تتنبأ بالغيب ” – ص 385 و386 ) (12)
وارتباطا بالسلوك الاستعراضي ، فقد كانت هناك أسباب ” طفلية” تقف خلف بعض ممارساته مثل زيارة مدارس البنات وزيارات تلك المدارس له في مقره في وزارة الدفاع حيث قال الأستاذ “
محمد صدّيق شنشل” وزير الإرشاد في عهد قاسم :
( إن زيارات قاسم لمدارس البنات وكذلك زيارات المدارس لقاسم في مقره في وزارة الدفاع كانت لسبب ، هو أن الفتاة التي خطبها قاسم قبل الثورة ورفضته هي معلمة في إحدى مدارس البنات ، وعند زيارة وفد المدرسة التي توجد فيها هذه المعلمة رأى حلقة الزواج في يدها . وعند ذلك منع زيارات المدارس إليه – ص 387 ) ( 13 )
يقول “طالب مشتاق” في كتابه “مذكرات سفير عراقي في تركية ” :
( وأصبح عبد الكريم قاسم يعتقد بأنه أهل لهذه النعوت والأوصاف ، وأن العناية الإلهية أرسلته ليحقق المعجزات وليكون زعيما للعرب . وانسياقا وراء هذه العقيدة الوهمية التي رسخت في ذهنه واستحوذت على تفكيره ، أضحى يصدّق حتى ببعض الخرافات التي كانت تُنقل إليه على لسان الإنتهازيين ، رغما عن كونها خرافات لا تنطلي على أبسط الناس ، فمثلا :
“كان بعض الضباط جالسين في ساحة وزارة الدفاع ، وكان القمر بدرا ، وإذا بأحد الضباط يقول انظروا إلى القمر ، إن صورة الزعيم في وسطه فصدّق الضباط ذلك ونقلوا هذه الخرافة إلى قاسم ولربما آمن بها وصدّق – ص 393 ) (14)
ويقول أيضا :
والحادثة الأخرى الأغرب منها :
( إن أحد افراد الشرطة من مرتبات شرطة لواء الرمادي راجع متصرف اللواء وبيده بيضة رُسمت فوقها صورة الزعيم قاسم ، وادّعى أن دجاجة في بيته قد باضتها بهذا الشكل ، وابتدأت الاتصالات ببغداد منذ تلك اللحظة بالتلفونات والمراسلات ، وحتى أصبحت لدى المتصرفية ملفة ضخمة تحتوي على كل هذه المراسلات حول المعجزة الربانية التي منحها الله لعبد الكريم قاسم ، والزعيم يسمع ما يُقال عن هذه المعجزة فيبتهج ويطرب حتى وإن كان لا يؤمن في قرارة نفسه بصحتها – ص 393) (15)
( وقد وصفه أحد المراسلين الصحفيين الأمريكيين الذين عرفوه فقال : إنه زعيم غريب في البلاد العربية ، فهو لا يمتلك شخصية قوية تفرض نفسها فرضا ، وهو خطيب غير لامع ، صوته رفيع ووقوفه على المنبر قلق ، لكنه رجل حالم مترفع في سلوكه ويحاول أن يحصل على ثقة الناس جميعا – ص 182 ) (16) .
إن من الأمور المهمة التي ينبغي التركيز عليها هنا هي أن بإمكان المنصب السياسي والوظيفي أن يشكل في أحيان كثيرة غطاء لما هو مرضي من خصال في شخصية وسلوك الفرد المعتل نفسيا ، والذي يشغل مثل هذا المنصب ، فتتحوّل السمات المرضيّة العصابية وحتى الذهانية في بعض الأحوال إلى ” إيجابيات ” قد تلفت الإنتباه ، وتحصل على الإعجاب ، وتعزّز الإنجاز . فاضطرابات النوم مثلا قد تجعل المسؤول يصل الليل بالنهار في متابعة القضايا وفي الجولات الميدانية . وقد تجعل السمة الشكوكية والإحساس بالإضطهاد الشخص صالحا للمناصب الأمنية حيث التدقيق في كل شيء والشك في أدق الأفعال . وقد هيّأ المنصب الجديد متنفسا للزعيم لتفريج عن أغلب عقده المرضية المكبوتة لتأخذ شكل منجزات وتحدّيات تتستر خلفها الدوافع النفسية المرضية . وقد أحس الجواهري وهو يتحدث عن عقدة الفقر التي تحكمت بطفولة ومراهقة قاسم وشبابه المبكر ، بأنه يتشارك معه بنفس العقدة ، فما هو الفارق ؟ ولماذا صار جانب من تأثيراتها في سلوك قاسم سلبيا ولم يصبح كذلك في سلوك الجواهري بالصورة المؤذية التي حصلت لدى الأول ؟
. يبرر الجواهري ذلك بصورة كثيرة الدقة رغم كونه غير مختص في علم النفس بالتعبير عن الفارق بصورة “شعرية” :
(النقطة هنا تتعلق بالتكوين النفسي لعبد الكريم قاسم ، هذا التكوين الذي انعكس على قراراته المتسرعة ، فيها ما يُحمد وفيها ما يُذم .
فقد كان هذا الرجل فقير البيئة محروم الطفولة السعيدة ، حاقدا على الواقع الذي عاشه وحاقدا على الطبقات المستغِلة الموجودة على أرضيته .
والفقر داء قتّال تنسحب أوجاعه على كل مراحل حياة المرء ، وأراه يشكّل عقدا في الذات لا يمكن لأي زمن أو حدث أو أية سلطة أن تمحوها .
ومن هنا كان تعطشه للإنتقام وحبّه للإنفراد بالسلطة والحكم . وكان قليل الثقة بالآخرين ، كثير الحرص على كرسي السلطة متذبذبا في مواقفه ، مغترا بنفسه ، منساقا إلى كل ما يخدم سلطته ويعزّز أركان حكمه .
وأقولها جازما : إن جرائر الفقر وعقده لا يمكن أن تتخلص منها الذات الحساسة مهما تبدلت الظروف وتغيّرت الأحوال . وليس من قبيل التبجح أو الإدعاء القول : إنني لم أجد ترجمة لعُقد الفقر وجرائره كالتي جسدتها في “أجب أيها القلبُ ” :
ومكبوته لم يشفع الصفح عندها مددت إليها من أناة بشافعِ
غزت مهجتي حتى ألثت صفاتها ولاثت دمي حتى أضرّت بطابعي
ربتْ في فؤاد بالتشاحن غارق مليء وفي سمّ الحزازات ناقع ِ
كوامن من حقد وإثم ونقمة تقمصني يرقبن يوم التراجع ِ
وقلت لها : يا فاجرات المخادع ِ تزيين زي المحصنات الخواشع ِ
وقن بصدر ٍ كالمقابر موحش ٍ ولحنَ بوجه ٍ كالأثافيّ سافع ِ
وكنّ بريقا في عيوني وهزّة بجسمي وبُقيا رجعة في أصابعي
وأرعين أطيافي وشرّدنَ طائفا ً من النوم يسري في العيون ِ الهواجع ِ
.. والحق يُقال والحديث عن فقر كريم قاسم أنني ظللت وحتى هذه اللحظات أعاني الكثير من تراكمات القهر والفقر والعوز والحاجة التي اعتملت في داخلي وأفرعت غصونها حتى وصلت شرايين الدماغ الذي منه قرارات المرء وأحكامه .
وهذه المكبوتة التي فجّرتها شعرا ، كان يحملها في داخله عبد الكريم قاسم ، لكن يبدو أن هذا الزعيم أراد أن يفجّرها إعدامات وقتلا وتصفيات ، بالإضافة إلى أنه فجّرها تدميرا للصرائف ، وفجّرها بناء حضاريا للفقراء ، وفجّرها تطلعات وطنية متحدية للاستعمار بأشكاله .

ولم تكن الرغبة الثأرية من قبل هذا الزعيم مقتصرة على هذا الشخص أو ذاك فحسب أو على هذه الشريحة الاجتماعية أو تلك ، بل كان ثأره مهيئا للإنفجار في أية لحظة وأي ظرف وأية حادثة قد تمس قراره .
وهذا ما كان أحد نقاط ضعفه البارزة ، إذ كيف لرجل دولة يقود ثورة الجمهورية أن يخرج عن وقاره وحلمه وحكمة قراره لأتفه الأسباب وأبسطها ؟. – ص 205 و206) ( 17)
إن من الحالات المهمة التي تشير إلى اضطراب شخصية عبد الكريم قاسم وسلوكه الطفولي والمزاجي هي مواقفه من الجواهري والأساليب السخيفة التي تعامل بها معه من اعتقال بلا مبرر .. وحتى محاصرته لبيع أثاث بيته ثم –وهذا هو الأدهى – ترتيب سرقة بيته بصورة فجّة لا يقوم بها حتى صبيان الشوارع .. وصولا إلى أقسى وأقصى حالات العدوان الثأرية متمثلة بترتيب محاولة إغتياله التي أبلغته بها سفارة ألمانيا الشرقية – آنذاك – فغادر العراق بسببها خلاصا من الموت على يدي الزعيم !!
هوامش:
———
1و2و3و4و5و6و7و8 علي الوردي – الأحلام بين العلم والعقيدة
9و11و16و17 ذكريات الجواهري – الجزء الثاني
10و12و13و14و15 ليث عبد الحسن الزبيدي – ثورة 14 تموز في العراق

 

 

 

Facebook
Twitter