عبدالرضا الحميد
تعرضت الديمقراطية ، فكرة ونظرية ومفهوماً ، ومن ثم نظاماً وآليات اجرائية ، الى الكثير من اللبس والايهام والتمويه ، الى درجة بلغ التعقيد فيها مبلغ اعدام الديمقراطية ، جوهراً ومظهراً ، مرة واحدة ومعاً.
عزا البعض ذلك الى خصوصيات المجتمعات واختلاف بعضها عن بعض مرة ، والى المستحثات التطويرية والعصرنة مرة ثانية ، والى اختلاف الحاضنات الفكرية والعقائدية والاجتماعية في المجتمعات المتشابهة ، او في المجتمع الواحد ، مرة ثالثة ، وعزا بعض آخر ذلك الى علل اقتصادية ، وتفاوتات زمانية ومكانية ، وحتى مناخية.
لا يخلو اي من ذلك عن موجبات استنباطه الموضوعية والواقعية ، شخصية كانت ام جمعية ، لكن معظمها لم يخرج من معطف الجذر الفلسفي للديمقراطية انما خرج عليه ، فـ(حكم الشعب لنفسه) اخرج من ارضه الفلسفية والقي في تيه الادلجة الضيقة والمواضعات الاقتصادية والتفسيرات المجترحة قسراً والتطبيقات الخالية من لحمة الديمقراطية وسداها ، فالشعب الذي هو كل واحد تحول في (حكم الشعب لنفسه) الى حكم الاغلبية القومية واهمال القوميات ذات الاقلية العددية ، في بعض التجارب الديمقراطية القومية ، وتحول الى حكم الاغلبية العاملة او الشغيلة واهمال سواها تحت يافطة رومانسية عنوانها (ديكتاتورية البروليتاريا) كما في التجارب الديمقراطية الاشتراكية ، بينما تحول الى حكم المعتقد الديني السائد على حساب سواه الاقل انتشاراً كما في بعض التجارب الديمقراطية في بعض الدول ذات المسوح العقائدية الدينية.
كما تحول الشعب في (حكم الشعب لنفسه) الى الطبقة الرأسمالية الحاكمة او المتحكمة التي تسوس بمقدرتها المالية وفاعليتها الاقتصادية وسعتها التأثيرية كما هو الامر في الاغلب الاعم من الديمقراطيات الغربية ، بينما تحول في بعض دول العالم الثالثة الى الفئة الحزبية الانقلابية او الى الفئة الحزبية الحاكمة .
واخفقت كل التجارب في التعبير عن الجوهر الحقيقي للديمقراطية الذي يعني شراكة الشعب جميعاً في حكم نفسه حكماً حقيقياً قائماً على حريته في اتخاذ قراره واختطاط خياراته السياسية والاقتصادية والاجتماعية وعلائقه مع بعضه ومع سواه . وسر الاخفاق يكمن في تجزئة الشعب وتحويله الى جزء حاكم وجزء محكوم بناء على معطيات ليست ديمقراطية كمعطيات الانتماء القومي او الاعتقاد الديني او النظرية السياسية او الوضع الطبقي او التحزب الفئوي ثم تجزئة الجزء الحاكم الى سلسلة معقدة من الهيكليات التي كلما صعدت بأتجاه قمة الهرم ضاقت وتصاغرت وبعدت الشقة بينها وبين القاعدة وتولدت علائق بيروقراطية وانماط تمثيلية وتحكمية منقطعة الصلة بالاختيار او عدمه عن الشعب.
ونتيجة ذلك ، تحول الانحراف عن جوهر الديمقراطية، الى صانع للطبقات الحاكمة ومضيف الى طبقات المجتمع غير المتصالحة لاسباب اقتصادية واجتماعية في الغالب ، طبقة وجدت في القشري من مسميات الديمقراطية سلماً لبلوغ اشباع انوياتها الصغيرة على حساب شقاء الشعب جراء عدم تحقيق الاسباب البسيطة لحياة حرة كريمة ديمقراطية له.
وادت هذه الفجوة الهائلة بين الهدف الانساني العظيم الذي اجترح الديمقراطية اساساً للعدالة والمساواة وبين تطبيقاتها الكسيحة الظالمة والتمييزية ، الى ولادة النموذج الديمقراطي الرائع وهو (الديمقراطية المباشرة) و(سلطة الشعب) ففي الديمقراطية المباشرة تنعدم التمايزات القومية والدينية والطبقية والطائفية ويمارس كل فرد من المؤتمر الشعبي في القصبة او القرية او الناحية او المحافظة حقه القيادي في اقتراح المنهج الذي يراه موائماً لحياة عادلة متساوية منتجة فاعلة مؤثرة ، وله حق الرفض والقبول لكل ما يطرح ، ويأخذ صوته حيزاً مباشراً ، وليس عبر نواب او مجالس تمثيلية ، في تثبيت الخيار الشعبي لهذا الامر او ذاك ، فلا قمة هرم ولا قاعدة في الديمقراطية المباشرة ، انما هناك دائرة محيطها كل الشعب على قدر واحد من المساواة والفعل والتأثير.
ومن اسمى تجليات الديمقراطية المباشرة بالاضافة الى نبذ التمايزات القومية والدينية والطبقية والطائفية ، هو نبذ التحزب ، فالاحزاب آفة الديمقراطية الحقيقية لانها تحول الشعب الى مجموعة دكاكين تنظيمية ساعية وفق غايات فئوية الى تعميم نموذج فكري وان لم يلق هوى من قبل سائر الشعب ، ولا يعني هذا ان الديمقراطية المباشرة تلغي الافكار السياسية او الاقتصادية او غيرها وتسعى لمحقها ، بل تسعى الى تهذيب تعاطيها دونما عصبيات فئوية ومطامح ضيقة الافق شمولية وقسرية الغاية ، ويكمن هذا التهذيب في انها – اي الديمقراطية المباشرة – تطلق اوسع المدى لجميع الافكار كي تنتشر وتتسع وتأخذ استحقاقها من الرعاية والاهتمام والاحترام بشكل متساو وعادل مع غيرها ضمن اطار الشعب في المؤتمرات الشعبية الاساسية وحتى المؤتمر الشعبي العام ، وبذلك وحده ، تضع الديمقراطية المباشرة نهاية لسفك دم الديمقراطية الحقيقية المستمر منذ قرون على مذابح العصبيات القومية والدينية والطائفية والطبقية والفئويات الحزبية.