البرادعي يروي قصة العشاء الاخير مع رجال صدام

في مطعم بغدادي فاخر وعلى مائدة من السمك المشوي واسياخ الكباب والخمر  كان عشاؤنا الاخير

 

 

قلت لمجلس الامن: لم نجد أي دليل على استئناف العراق برنامجه النووية فثار علي الغرب

 

 

صدام لم يكن محبوبا بين الحكام العرب الموالين للغرب وكانوا يرغبون في التشفي من العراق

 

 

عامر السعدي طلب من محطة التليفزيون الألمانية تصوير استسلامه لقوات الغزو

 

قلت لرجال صدام: ساعدونا بكشف برامجكم التسليحية نساعدكم فقالوا بماذا نساعدكم ونحن لانمتلك اي برنامج؟

 

الخطر الرئيسي الراهن ليس اشتباكات نووية شاملة تمحو العواصم انما امتلاك جماعات متطرفة السلاح النووي

 

الغرب شن عدوانه على العراق ولم يكن فيه تهديد وشيك ولم يشن عدوانا على تهديدات حقيقية في كوريا الشمالية وايران

 

 

صدرت الثلاثاء الماضية الطبعة الإنجليزية من كتاب “عصر الخداع” للدكتور محمد البرادعي الذي كان واحدا من اهم اسباب غزو واحتلال وتدمير العراق والمرشح المصري المحتمل لانتخابات الرئاسة.

وقدم الكتاب الذي صدر عن دار “ميتروبوليتان” في 352 صفحة خلاصة تجربة البرادعي خلال ترؤسه للوكالة الدولية للطاقة الذرية.

لاطلاع ابناء شعبنا قراء (العربية) الافاضل ننشر هنا مقدمة الكتاب التي يعرض فيها البرادعي لأفكاره الأساسية بشأن مشكلة التسلح النووي وبشكل خاص التجربة المثيرة للجدل التي حاول الكثيرون النيل منه بشأنها وهي موقفه بشأن غزو العراق والمزاعم عن امتلاكه أسلحة دمار شامل.

“ساعدنا نساعدك.”

ابتسم الرجل الجالس على الجانب المقابل من الطاولة. لكن لم تكن السعادة هي ما قرأته على وجهه. فقد ضاقت عيناه واتسع فمه جانبا، هل كان هذا حزنا؟ إرهاقا؟ لم أكن متأكدا.

كان ذلك في 9 فبراير 2003 بعد أكثر من اثنتي عشرة عاما من قرار مجلس الأمن فرض عقوبات لأول مرة ضد العراق. وفي أقل من شهر وبضعة أيام تلا هذا غزو العراق بقيادة أمريكا. كان صدام حسين مؤخرا سمح مرة أخرى لمفتشي الأسلحة التابعين للأمم المتحدة بدخول العراق وهما هانز بليكس وأنا بوصفنا قائدين للفرق الدولية حيث كنا في زيارتنا الثالثة إلى بغداد. كانت تلك آخر ليلة لنا حيث دعانا ناجي صبري وزير الخارجية العراقي إلى العشاء مع خبرائنا الرئيسيين ونظرائهم العراقيين.

كان هذا هو أفضل مطعم في المدينة، فقد كانت البنية التحتية لبغداد متدهورة مما يُظهر تأثير العقوبات. ومع هذا كانت خدمة العشاء ممتازة وكان الندلاء كرماء ومفارش المنضدة الحمراء الداكنة والمصنوعة من الكتان في غاية النظافة. كان هناك الكثير من السمك المشوي الطازج من نهر دجلة. كما أن أسياخ الكباب من لحم الحمل كانت ممتازة التتبيل وكانت على المائدة متعة أخرى هي الخمر، وكانت تلك مفاجأة فالخمر ممنوع شربه علنا بالعراق بناء على مرسوم تم تمريره في 1994. ولكن في هذا المساء ومع هؤلاء الضيوف القادمين من خارج المدينة سمح العراقيون بهذا الاستثناء.

كان الرجل الجالس في الجانب المقابل من المنضدة الجنرال عامر حمودي حسن السعدي كبير المستشارين العلميين لصدام حسين. ولقب “جنرال” كان مرعبا في جوهره، لكنه شخص مهذب ومفاوض ذو كاريزما وحاصل على الدكتوراه في الكيمياء الفيزيائية، وكان يتقن الإنجليزية أيضا والعربية ويفضل الملابس العادية على الزيِّ العسكري. ورغم أنه ليس عضوا بحزب البعث إلا أنه عمل كواجهة علمية للحكومة العراقية.

وقد وجهت أنا وبليكس حديث العشاء نحو موضوع بالغ الأهمية، وهو الحاجة إلى المزيد من التعاون والتوثيق. قلنا لهم: أنتم تصرون على أنه لا توجد أسلحة دمار شامل وأنكم لم تقوموا بإحياء أية برامج لأسلحة دمار شامل سابقة لكننا لا نستطيع ببساطة إغلاق الملف بينما سجلاتكم ناقصة، فنحن نحتاج إلى أدلة. فكلما أظهرتم شفافية كلما كان باستطاعتكم حينئذ تقديم أدلة ووثائق ملموسة مما سيكون له أثر ايجابي لصالح العراق على الصعيد الدولي. فماذا بوسعكم فعله لسد الفجوات في معلوماتكم؟ ساعدونا نساعدكم.

كان يجلس بجانب السعدي حسام أمين رئيس مجموعة اتصال الأمم المتحدة بالعراق، وقد مال إلى الأمام ليجيب قائلا: “دعونا نكن صرحاء، أولاً نحن لا نستطيع إعطاءكم أي شيء آخر لأنه ليس هناك المزيد لنعطيه.” ثم تحول بصره إلى بليكس ثم عاد إلي قائلا:” لكن ثانيا أنتم لا تستطيعون مساعدتنا لأن هذه الحرب سوف تقع ولا شيء بوسعكم أو بوسعنا فعله لمنعها، ونحن نعلم ذلك، فأيا كان ما نفعله لن يفلح أمام هذا الأمر المحتوم.”

وقد استرخى للوراء وأحنى السعدي رأسه موافقا، ولم يقل شيئا، وظل الحزن كامنا في ابتسامته.

ورغم وجهة نظر أمين إلا أني رفضت تصديق أن الحرب كانت حتمية فالوكالة الدولية للطاقة الذرية وهي هيئة تابعة للأمم المتحدة مسؤولة عن تفتيشات الأسلحة النووية التي رأستها، وكانت تحقق نجاحا ملموسا شمل متابعة كل معلومة استخباراتية وصلتنا حيث لم نتوصل إلى اكتشاف شيء!. وفي تقرير إلى مجلس الأمن في 27 يناير قلت:” لم نجد حتى الآن أي دليل على أن العراق قد استأنف برنامجه للأسلحة النووية.” وقد سبب هذا التصريح نقدا قويا من مسؤولين غربيين ومراقبين في الإعلام أقنعوا أنفسهم بعكس ذلك، لكن هؤلاء النقاد كانوا يشيرون إلى الافتراضات والتخمينات كأدلة، بينما كان ما قلته هو الحقيقة.

ولم تكن الوكالة الدولية للطاقة الذرية في وضع يسمح لها بإصدار شهادة خلو العراق من هذه الأسلحة لكني قمت بحث المجلس على السماح للمفتشين بأداء أعمالهم، وبعد أشهر قليلة اقترحت ما كان يشكل “استثمارا قيما في السلام.” فلو أن تبرير الغزو الاستباقي للعراق مرتكز على برامج أسلحة الدمار الشامل التي استأنفها صدام حسين فأين كان الدليل إذن؟ أين كان هذا التهديد المُلح؟ لو كان أمين يقول الحقيقة، وأن العراق “ليس لديه المزيد ليعطيه” فإن الدلالات كانت حينئذ كبيرة: أي أنه لم يكن هناك تهديد أصلا.

وحرب بلا تبرير كان من المؤكد أنها تقود إلى زرع بذور الخلاف في العلاقة التي يشوبها قدر من التوتر بالفعل بين من لديه سلاح نووي ومن ليس لديه. وكل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة لديه أسلحة نووية ولم تُظهرا أية علامات على التخلي عنها بينما كانا يهددان العراق لزعمهما أنه يسعى إلى اكتساب هذه الأسلحة.

وبالنسبة للكثيرين في العالم النامي وخاصة في المجتمعات العربية والإسلامية كان هذا مثيرا للسخرية وظلما فادحا، فقد تمتع صدام حسين بشعبية نسبية بين الجماهير العربية لموقفه ضد معاملة إسرائيل للفلسطينيين، وموقفه المتحدي للغرب. لكنه لم يكن محبوبا بين الحكام العرب الموالين في معظمهم للغرب، وخاصة بعد غزو الكويت في 1990 وكان يعتمل في الصدر شعور بالرغبة في التشفي في العراق. ولو كان من الضروري للحرب بالفعل أن تقوم، وخاصة لو كانت تلك الحرب مرتكزة على تهم مختلقة بحيازة أسلحة دمار شامل فإن من الطبيعي أن يتصاعد الإحساس الحاد بالغضب عبر أنحاء العالم العربي والإسلامي.

ومع انقضاء الأسابيع، ومع كل ثقتي في عملية التفتيش كان لدي إحساس متزايد بالقلق، ذلك أن الخطاب الصادر من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة كان مزعجا بشكل متزايد. وقبل أربعة أيام فقط من العشاء في بغداد قدم وزير الخارجية الأمريكي كولن باول أدلته إلى مجلس الأمن حيث قام بعرض تسجيلات صوتية لمكالمات هاتفية، وعرض صور لمنشآت عراقية تم التقاطها بالأقمار الصناعية.

وقد أظهرت هذه السجلات بحسب كلامه ” نماذج مقلقة من السلوك” من جانب صدام حسين ونظامه “أي اتباعهم سياسة التحايل والخداع.” وبالنسبة لمجموعة المفتشين كان عرضه مجرد تكديس لتخمينات وجمع لبيانات غير مؤكدة تم تفسيرها طبقا لسيناريو أسوأ حالة. وهكذا لم يكن هناك دليل مقنع بينما بدا كلام باول مقنعا للبعض خاصة لغير المتخصصين.

وخلال الأسابيع الستة التي تلت ذلك لم تكن ثمة إشارة على أي تقدم في عملية التفتيش أو على المسار الدبلوماسي يمكن أن يمنع الأزمة الوشيكة. وقد كشفت الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن المستندات الاستخباراتية الرئيسية التي تشير إلى أن صدام حسين حاول شراء اليورانيوم من النيجر هي مستندات ملفقة. لكن هذا الكشف لم يُحدث التأثير المطلوب. كما أن القمة العربية الطارئة للقادة العرب في شرم الشيخ – بدلا من تطوير حل أو حتى تبني موقف موحد –انتهت إلى لا شئ. كما باءت المحاولة الأخيرة من البريطانيين لتجنب العمل العسكري بالفشل.

وفي وقت مبكر من صباح 17 مارس تلقيت مكالمة من البعثة الأمريكية في فيينا تنصحني أن أنقل مفتشينا إلى خارج بغداد ذلك أن الغزو كان على وشك الوقوع.

” لو وُجد خطر في العالم فإنه خطر يتقاسمه الجميع وبالتساوي…ولو وجد الأمل في عقل دولة واحدة ينبغي أيضا أن يتقاسم الجميع ذلك الأمل.” كانت تلك هي كلمات الرئيس الأمريكي دوايت دي آيزينهاور في 1953 في خطابه الذي كان بعنوان “الذرة للسلام” والذي نتجت عنه بعد أربع سنوات الوكالة الدولية للطاقة الذرية. لقد كانت رسالة فوق العادة قيلت وسط سباق تسلح نووي واسع للمجتمع الدولي الذي لم ينس الدمار الذي خلفته الحرب العالمية الثانية.

ومفهوم آيزنهاور للذرة لأجل السلام – وهي الفكرة التي تقضي بأن منافع ومخاطر العلم النووي يجب معالجتها بالتعاون بين المجتمع الدولي – هو المبدأ الجوهري للدبلوماسية النووية. وسيكون بمثابة التزام عالمي لتعزيز التعاون التقني في الاستخدامات السلمية للطاقة الذرية ولمنع انتشار الأسلحة النووية – التزام مزدوج متضمن في قانون الوكالة الدولية للطاقة الذرية والمعاهدة التاريخية في 1970 لمنع انتشار الأسلحة النووية.

وكمحام مصري شاب وأستاذ للقانون الدولي في نيويورك في أوائل الثمانينات شعرت بصدى هذه الفكرة لأجل السلام وانضممت إلى الوكالة الدولية للطاقة الذرية في 1984 وأصبحت مستشارها القانوني بعد ذلك بثلاث سنوات.  

ووقت حرب العراق في 2003 كنت المدير العام للوكالة الدولية لطاقة الذرية لأكثر من خمس سنوات ومدير جزء من الوكالة لأكثر من عشرين عاما. وقد شغلت نفسي بمهمة الدبلوماسية النووية للوكالة. وأما خوض حرب بناء على تهم غير ثابتة بامتلاك أسلحة دمار شامل – ولتنحية دور الدبلوماسية النووية للوكالة ليكون مجرد غطاء للعملية المطلوبة – فكان بالنسبة لي تشويها غريبا لكل شيء ندعو إليه. لقد جاء هذا ضد نصف قرن من العمل الشاق من جانب علماء ومحامين ومفتشين وموظفين عموميين كلهم جادون وقد أتوا من قارات مختلفة. وقد كنت مذعورا مما شهدته، والفكرة التي لن تغادر رأسي كانت هي اليقين الذي لم يره بليكس ولا أنا مما يمكن أن يبرر الذهاب إلى الحرب.

وقد سلم الجنرال عامر السعدي رفيقي الكئيب على العشاء نفسه إلى قوات التحالف في 12 أبريل 2003 بعد أن احتل الرقم 32 على قائمة العراقيين الأكثر مطلوبية والسابع على القائمة المشبوهة لورق الكوتشينة المنتشرة آنذاك للمطلوبين. وقد طلب من محطة التليفزيون الألمانية ZDF   تصوير استسلامه، وعندما تحدث إلى الكاميرا قال:” ليست لدينا أسلحة دمار شامل، وسوف يثبت الزمن كلامي.” وكان من الواضح لي أن استنتاجنا المؤقت عن الأسلحة النووية كان صحيحا لأنه في ذلك الوقت لم يكن لدى السعدي مبرر ليكذب.

وفي السنوات التالية أكدت مصادر متعددة أن الحجة التي استند إليها غزو مارس 2003 – أي التهمة التي وجهتها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة لصدام حسين بامتلاك أسلحة دمار شامل مما يشكل تهديدا وشيكا – كانت بلا أساس. وسوف تنفق مجموعة دراسة العراق التي عينتها الولايات المتحدة فيما بعد مليارات الدولارات حتى تثبت أن المفتشين الدوليين كانوا على حق، أي أن العراق لم يستأنف برامجه لأسلحة الدمار الشامل. كما أنه من الواضح أن تهديد أسلحة الدمار الشامل المزعوم لم يكن هو الدافع الحقيقي للعدوان الأمريكي والبريطاني. وقد كانت مذكرة “داونينج ستريت” الشهيرة التي تم تسريبها من يوليو 2002 واحدة من بين مصادر عديدة تشير إلى أن قرار الذهاب إلى الحرب قد تم اتخاذه أصلا قبل حتى أن يبدأ المفتشون عملهم.

ولا أستطيع حتى يومنا هذا قراءة التقارير بدون أن أذكر آلاف الجنود الذين ماتوا ومئات الآلاف من المدنيين العراقيين الذين قُتلوا وملايين المشوهين أو المُرحلين والأسر التي مُزقت والمعيشة التي دُمرت – وأنا مندهش من أنه لم يكن هناك نوع من المراجعة الذاتية أو النقدية من جانب اللاعبين الأساسيين. وعار هذه الحرب التي لم تكن لها ضرورة يجبرنا أن نفكر فيما حدث من خطأ في قضية العراق، والتفكير في كيف يمكن تطبيق الدروس المستفادة من هذه المأساة على أزمات مستقبلية.

وتؤكد التوترات الحاصلة بسبب التطورات النووية التي تقلق العالم الآن وخاصة فيما يتعلق بإيران أننا يمكن برغم ذلك أن نكرر كارثة العراق، بل وبعواقب أسوأ على الأمن العالمي. وعندما أفكر في التحديات التي ما تزال تواجهنا فإني في الغالب أعود مجددا إلى مشهد عشائنا في فبراير 2003 في بغداد لأنه صورة مصغرة للجوانب الجوهرية للمعضلة التي نواجهها كمجتمع عالمي يبحث عن أمن دائم وجماعي. وتتمثل هذه الجوانب في عدم الثقة المتزايدة بين مختلف الثقافات والآثار التدميرية للنظام القديم ممن يملكون السلاح النووي ومن لا يملكون وحماقة التصعيد النووي وحتمية الخراب لو عجزنا عن التعلم من أخطائنا الماضية.

وهذا المشهد لعشائنا مهم أيضا فيما يتعلق لمن قد يكونون غائبين .. اللاعبيبن الأساسيين – وهما في هذه الحالة الولايات المتحدة والمملكة المتحدة – والذين ستحدد قراراتهم بالفعل نتيجة الموقف. فغيابهم سيصبح نموذجا متكررا في الأعوام القادمة، وخاصة في إيران. 

 ويتمثل هذا في المفاوضات التي تهيمن عليها أمريكا عن بُعد، فيما تسعى إلى تحديد النتائج وفي الوقت ذاته رفض المشاركة المباشرة. والدبلوماسية النووية هي فرع عملي يتطلب مشاركة مباشرة وتقيدا والتزاما طويل المدى، ولا يمكن أداؤها بالتحكم عن بُعد. ولو لزم استخدام الحوار كأداة لحل توترات الانتشار النووي فإنه لا يمكن قصره على المحادثة بين المفتشين والدولة المشتبه بها. ويجب على الولايات المتحدة وحلفائها أن ينخرطوا بشكل حقيقي في المناقشات، وأن يتحدثوا مع أعدائهم المتصوَّرين، وأن يظهروا ليس بالكلام فقط التزامهم بحل سلمي للقلاقل الأساسية. ويجب على كل الأطراف أن تأتي إلى طاولة المفاوضات.

والعشاء في بغداد – والذي أسماه بعض زملائي الساخرين “العشاء الأخير” – كان واحدا فقط من بين أزمات متعددة تكشفت في أوائل 2003. وقد كانت كوريا الشمالية قد طردت للتو مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية الذين كانوا يراقبون “تجميد” منشآتها النووية، وأعلنت عن نيتها للانسحاب من معاهدة حظر الانتشار النووي.

وقد كنا بادئين لحظتها في اختبار مدى البرنامج النووي الإيراني، ومع انسحاب العديد من زملائي في الوكالة كنت على وشك القيام بزيارتي الأولى إلى منشأة التخصيب النووي التي كانت قيد الإنشاء في “ناتانز”.

وبعد ذلك بقليل بدأت ليبيا تقديم مقترحات للولايات المتحدة والمملكة المتحدة بالتخلي عن برامجها لأسلحة الدمار الشامل. وأما عن الخطوط الأولى الغامضة لوجود شبكة تمويل نووية محظورة ومبهمة فقد بدأت هذه الخطوط في الظهور ثم وجدنا في نهاية المطاف آثارا لنشاطها في أكثر من ثلاثين دولة.

والآن نحن نعلم أكثر وبشكل هائل عن كل واحدة من تلك الحالات سواء كان لديها تصنيع فعلي أو محتمل للأسلحة النووية. وما تزال الظروف في إيران وكوريا الشمالية تحديدا مائعة ويصعب التنبؤ بها. وما زلنا نفتقده هو منهج عملي يقوم على الإستجابة للتعامل مع تلك الحالات سواء الحالية أو المستقبلية. وما نحتاج إليه هو التزام بدبلوماسية نووية.

والعصر النووي الأول كان تسابقا للحصول على القنبلة، وهو السباق الذي كان بين دول قليلة نسبيا إما أنها كانت تمتلك الإمكانيات التكنولوجية الضرورية أو أنها كانت قادرة على الحصول على العلم المطلوب سريا لصنع سلاح نووي. وذروة هذا السباق وهو تدمير هيروشيما ونجازاكي جعل الولايات المتحدة هي المنتصر. لكن المتسابقين الآخرين لم يستسلموا، وخلال سنوات قليلة تمكنت أربع دول من الحصول على القنبلة.

وما نتذكره عن الحرب الباردة كان يمثل العصر النووي الثاني، فبينما امتلكت العديد من الدول أسلحة نووية واستمرت أخرى في السعي للحصول على هذه التقنية كان هذا في الحقيقة هو عصر العملاقين: الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، حيث كدَّس كل منهما عشرات الألوف من الرؤوس النووية في فلسفة معروفة بالتدمير المتبادل الأكيد الذي يتخفى في مصطلح “الردع النووي.”

ثم ظهر العصر النووي الثالث، وهو الفترة الحالية بعد تفكك الاتحاد السوفيتي. وفي فراغ القوة الذي نشأ عن ذلك فشل المجتمع الدولي في الاستفادة من فرص نزع السلاح النووي. ونتيجة لهذا بدأت الكثير والكثير من الدول في التفكير في برنامج أسلحة نووية سري ثم على الأقل دائرة وقود نووي كاملة يمكن أن تجعلها قادرة على إنتاج سلاح نووي بسرعة لو كان هذا يضمن موقفهم الأمني.

والخطر الرئيسي في هذه اللحظة ليس هو سيناريو الدمار المتبادل الأكيد، وليس هو اشتباكات نووية شاملة تمحو العواصم الرئيسية التي تؤوي الرأسمالية والشيوعية وإنما التهديد هو الحرب الذرية اللامتناسقة، أي اكتساب واستخدام أسلحة نووية بواسطة جماعات متطرفة أو دولة “مارقة” يرأسها ديكتاتور عدواني أو استخدام السلاح النووي من قِبل قوة عظمى ضد دولة ليست نووية.

والوضع غير مستقر بالأساس، كما أن تطورات السنوات الأخيرة فاقمت من عدم الاستقرار. فقد شهدنا عدوانا لم يكن هناك تهديد وشيك يستوجبه (في العراق) بينما كان هناك تراخ وتردد عندما ظهر تهديد حقيقي (في كوريا الشمالية) وجمود مطول أوقدته الإهانة والاستعراض العلني بدلا من الحوار الجاد (كما في حالة إيران). وعلى هذا الطريق فإننا كشفنا شبكة نووية محظورة ونشطة بقوة كانت جاهزة لتوفير برامج نووية سرية. وفي ذات الوقت فإن الاعتماد المستمر على الأسلحة النووية من جانب دول قليلة هو حافز دائم للآخرين ليكتسبوها.

والاضطراب المتنامي يعني أننا في مرحلة أفول العصر النووي الثالث، وبطريقة أو بأخرى نحن على حافة تغير هائل. وإذا لم نفعل شيئا للحفاظ على الوضع الراهن لمن يملك الأسلحة النووية ومن لا يملك فإن التغير على الأرجح سوف يتخذ شكل شلال حقيقي للانتشار النووي بل والأسوأ هو سلسلة من الاشتباكات النووية. والعلامات على هذا واضحة بالفعل، بل وهي أوضح ما تكون في ردود أفعال الدول المجاورة لأي تهديد نووي حقيقي أو متخيل فور ظهوره. كما أن الزيادة الحديثة في عدد الدول في الشرق الأوسط التي تتحدث أو تبدأ في اكتساب التقنية والخبرة النووية إنما هي مثال واحد على ذلك. واقتراحات كبار المسؤولين اليابانيين لفتح نقاشات حول برنامج الأسلحة النووية الياباني ردا على أول اختبار للأسلحة النووية لكوريا الشمالية هو مثال آخر.

ثمة بديل أيضا، فنحن نستطيع أن نغير المسار ونتبنى منهجا مختلفا من خلال قرار متوازي يستهدف تحقيق تقدم حقيقي باتجاه نزع الأسلحة النووية عالميا. ولو ظهرت معاهدة جديدة لخفض الأسلحة بين العمالقة النووية في العالم يتبعها منتدى تبدأ فيه الدول المالكة للأسلحة النووية ممارسة المسؤولية عن حاجتها لنزع السلاح فسيكون ذلك طريقا يمكن أن يؤدي بنا إلى مستقبل أكثر أمانا. ولو استطعنا الانتباه إلى دروس الماضي الحديث ومواجهة التهديد الحقيقي الذي أمامنا مباشرة فإننا ربما نتجنب الإبادة المتبادلة، ونضمن أن فجر العصر النووي الرابع سيحمل حلا للتوترات النووية، والتخلي عن الأسلحة النووية، وتحقيق سلام دائم

Facebook
Twitter