بين العرب والإيطاليين علاقات ثقافية وتاريخية ضاربة في القدم، لكن رغم ذلك فإن حواجز كثيرة باتت اليوم تحول بين الثقافة العربية والإيطالية، ما أدى إلى تضاءَل التواصل بين الثقافتين.
وربما يعود هذا الأمر إلى عائق اللغة، وتراجع الاستشراق الإيطالي والاستعراب في الإلمام باللغة العربية، وهو ما حال دون تخطي العوائق اللغوية إضافة إلى تراجع النقل والترجمة والتفاعل بين الثقافة العربية والثقافة الإيطالية.
وبالمقابل، من الجانب العربي، ثمة مليون وربع المليون من المهاجرين العرب في إيطاليا، لكن من النادر أن نجد بينهم كاتبا أو مترجما، فأغلبية عرب إيطاليا هم من العمالة الكادحة التي لا يعنيها أمر الثقافة والمثقفين.
ينضاف إلى ذلك أن جامعات وكليات عربية تزعم أن فيها أقساما للآداب واللغة الإيطالية، في تونس والمغرب والأردن ومصر على سبيل الذكر، هي تقريبا شبه غائبة عن الحراك الثقافي العربي الإيطالي ومحصورة في أبراجها الجامعية.
في هذا الجو المقفر راهن “مشروع كلمة” الإماراتي على الترجمة من الإيطالية لرفد المكتبة العربية دوريا بأعمال من لغة دانتي في مسعى لخلق تواصل وانفتاح على الثقافات العالمية. وضمن هذا الإطار أصدر “مشروع كلمة” التابع لهيئة أبوظبي للسياحة والثقافة مؤخرا ترجمة جديدة عن الإيطالية بعنوان “الابنة الغامضة” للكاتبة الإيطالية المعاصرة إيلينا فيرّانتي، وهو الاسم المستعار لهذه الكاتبة الإيطالية التي لا تزال شخصيتها مجهولة رغم شهرتها الواسعة، بترجمة المترجمة شيرين حيدر ومراجعة عزالدين عناية.
لا تخشى فيرانتي من إعادة النظر في مؤسسة العائلة التي تحتل في معظم الثقافات، إن لم نقل فيها جميعا، مكانة رئيسية، باعتبارها الرابط العضوي الأول بين الفرد والمجموعة، وهي الكيان الذي لا يزال يمثل في المجتمع الإيطالي عامة ركيزة تقليدية راسخة.
عبر لقاء عابر على شاطئ البحر في إجازة الصيف تلتقي الشخصية الأساسية في الرواية، وهي أستاذة جامعية في منتصف عقدها الرابع، بشابة وطفلتها. ويصبح ذاك اللقاء المفتاح لاستعراض جملة من العلاقات الإنسانية المتداخلة، أولاها علاقة الأمومة التي تربط الصبية بطفلتها، والتي تربط السيدة الأربعينية بابنتيها.
تنزع الروائية القدسية عن الأمومة في رفض للصور النمطية التي تقدم العلاقة بين الأم وطفلها في الرأي المشترك، فتحلل من خلال شخصياتها المؤطرة بعناية الأحاسيس العميقة التي تعتري المرأة/ الأم، والتي غالبا ما تبقى في الظلال تتستر عليها المرأة خوفا من ابتعادها عن نموذج الأم السائد الذي رسّخ في الأذهان، ووطّدته في الممارسة صور سطحية ومستهلكة عن الأمومة، صور باتت لا تقبل التمرد ولا حتى المساءلة.
بَيْد أنّ فيرّانتي الروائية الإيطالية التي ولجت بخطى واثقة عالم الرواية الإيطالية المعاصرة، كما في مختلف رواياتها، لم تتردد في الإمعان في خلع القشور عن القيم السائدة والمسلّم بها، لتبلغ عمقها، وتكشف النواة الحقيقية القابعة داخل الظواهر التي تتناولها.
فيرّانتي الروائية الإيطالية التي ولجت بخطى واثقة عالم الرواية الإيطالية المعاصرة، كما في مختلف رواياتها، لم تتردد في الإمعان في خلع القشور عن القيم السائدة والمسلّم بها
في رواياتها المختلفة والتي بلغت حتى الآن سبع روايات بالإضافة إلى كتاب عن صنعة الكتابة، وقصة للأطفال، اعتمدت فيرّانتي نوعاً من التصعيد في بنائها الفني لشخصياتها، التي ترسم ملامحها بدقة ووضوح لتؤطرها زمنيا ومكانيا ما يجعل من شخصياتها الروائية ذات بعد تاريخي، لها زمن ومكان وفعل، ويمنحها ذلك واقعية تخول للكاتبة ان تنقد الظواهر الاجتماعية الملتبسة التي تتناولها. وهو ما كان واضحا في نقد فيرانتي لتاريخ إيطاليا الحديث في أعمالها الأخيرة وخاصة رباعيتها الروائية التي نالت انتشارا واسعا من خلال عدد هام من الترجمات، ما خولها أن تصبح من أكثر الروائيين قراءة في الولايات المتحدة.
تفتت فيرانتي الأحاسيس والعلاقات وتشرحها عبلر شبكة أحداث متعالقة، ولا تخشى في روايتها الأخيرة أن تكشف حتى المناطق البشعة من الذوات البشرية، وشجاعتها تكمن خاصة في تحليل هذه المناطق في أكثر الذوات التي باتت رمزا ومثالا إنسانيا مغلوطا، ألا وهي ذات الأم. وربما يعود ذلك إلى أن الكاتبة تتمتع بحرية مطلقة إذ تتستّر وراء قناع الاسم المستعار الذي تخفي به هويتها منذ امتهنت الكتابة، فهي لم تظهر يوماً على العلن ما أثار الكثير من التساؤلات عن هويتها الحقيقية.
أيا كانت إيلينا فيرّانتي، فهي روائية لا يكتمل المشهد الروائي الإيطالي اليوم من دونها، فقد يجهل القارئ هويتها الفعلية غير أنّه يسهل عليه أن يدرك أنّ لها هوية أدبية مكتملة المعالم وواضحة تستحق منه متابعة نتاجها.