مسؤول عراقي يبتلع ورقة هواتف في بغداد خشية ان يعثر عليها الصهاينة
في كتابه «مذكرات وزير عراقي مع البكر وصدام» يتحدث جواد هاشم، وزير التخطيط العراقي الاسبق، عن تفاصيل عملية اختطافه من قبل اسرائيل، تلك العملية الشهيرة التي تصدرت وقتذاك وسائل الاعلام العربية من غير ان يكون الوزير العراقي هو المقصود فيها حسبما يرويها الوزير المختطف نفسه.
يقول جواد هاشم:
* غادرت يوم 27 تموز (يوليو) 1973، بغداد مع أفراد عائلتي إلى بيروت في طريقي إلى القاهرة لزيارة رسمية تبدأ بعد أربعة أيام، تلبية لدعوة من وزير التخطيط المصري الدكتور سيد جاب الله، وكان قد سبقني إلى القاهرة وفد مؤلف من كبار موظفي وزارة التخطيط يضم في عضويته قحطان لطفي علي مدير الديوان العام، والدكتور زهير الظاهر المدير العام للدائرة الزراعية، والدكتور سيروان عبد القادر المدير العام لدائرة المباني والخدمات.
عدت بعد انتهاء زيارة القاهرة، إلى بيروت لقضاء بضعة أيام مع عائلتي التي تركتها هناك، لنعود معاً إلى بغداد، وقد عاد معي من الوفد قحطان لطفي علي، أما بقية الأعضاء ففضلوا العودة إلى بغداد مباشرة. بقيت في بيروت حتى يوم 10 آب (أغسطس) 1973، حيث قررت العودة إلى بغداد في ذلك اليوم. حاولت حجز ثلاثة مقاعد على الطائرة العراقية التي تغادر بيروت فلم أفلح، إذ اعتذرت الخطوط العراقية متذرعة بعدم وجود أماكن شاغرة. وكعادتنا نحن العراقيين، والمسؤولين بشكل خاص، اتصلت بالسفير العراقي في بيروت خالد مكي الهاشمي، ورجوته تسهيل أمر عودتي وعائلتي إلى بغداد في طائرة ذلك اليوم، وكان أن حُجزت لنا ثلاثة مقاعد، إضافة إلى مقعد رابع للسيد قحطان لطفي علي الذي قرر هو الآخر العودة في اليوم نفسه بدلاً من اليوم التالي.
توجهنا إلى المطار، وكان بانتظارنا في صالة الشرف السفير العراقي. كان السفير عصبياً وقد بدت على وجهه حالة من الامتعاض. سألته عن السبب، فأخبرني أن جورج حبش الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، موجود في المطار ويريد السفر إلى بغداد على الطائرة نفسها، والمشكلة أن الطائرة ممتلئة بالمسافرين ولا يوجد فيها أي مقعد شاغر، ناهيك عن أربعة مقاعد يريدها حبش.
ـ ولكن يا سعادة السفير، كيف يأتي حبش ورفاقه إلى المطار من دون أن يكون لديهم حجز مسبق؟
أجاب السفير: نعم، لديهم حجز على الطائرة العراقية التي يفترض وصولها من لندن، لكن الطائرة لم تصل، والخطوط العراقية تحاول استئجار طائرة أخرى لتقلّ المسافرين الذين كان يفترض سفرهم على طائرة أمس. أما مسافرو طائرة اليوم، ومنهم أنا وعائلتي وحبش ورفاقه، فليس لديهم أماكن، وعليهم الانتظار حتى قدوم الطائرة العراقية من لندن.
قلت: إذاً، دعنا نعُد إلى بيروت لقضاء الليلة في فندق ونستقلّ طائرة الغد. فرفض السفير اقتراحي وأصر على تدبير مقاعد لنا مهما كلف الأمر، وعلق قائلاً: أما حبش ورفاقه فلا داعي إلى سفرهم اليوم.
ويبدو أن طائرة الخطوط العراقية التي كان يُفترض أن أستقلها وعائلتي، قد تأخرت بسبب عطل طارئ في مطار لندن، وتعذر وصولها إلى بيروت في الوقت المحدد، فتم استئجار طائرة ركاب لبنانية تابعة لشركة «طيران الشرق الأوسط». كانت الطائرة المستأجرة من نوع «كرافيل» صغيرة الحجم لا تتسع لجميع المسافرين. وقام ممثل الخطوط العراقية بإعطاء المقاعد المتوفرة لمن وصلوا إلى المطار قبل غيرهم، وكنت من بين هؤلاء، لكننا جميعاً لم نكن ندرك أن وجهتنا ستكون مكاناً آخر.
صعدت الطائرة ومعي زوجتي وولدي جعفر. أخذنا أمكنتنا في الدرجة الأولى، وكان إلى جانبنا عدد قليل من المسافرين على هذه الدرجة. كان معنا قحطان لطفي علي، ودحام الآلوسي سفير العراق لدى البحرين، واثنان من أعضاء «جبهة التحرير العربية» التي أسسها حزب البعث العراقي، هما السيدان رضا فرحات وخليل بركات، وكان الأخير عضواً في القيادة القومية للحزب.
تحركت الطائرة عند الثامنة والنصف مساءً على مدرج المطار تمهيداً لإقلاعها، إلا أنها سرعان ما توقفت في نهاية المدرج بعيداً عن مبنى المطار. طال توقفها حتى بلغت الساعة التاسعة تقريباً. توجهتُ إلى غرفة القيادة لأستفسر من قائد الطائرة عن سبب التأخير، فأجابني بأن لديه حمولة فائضة يريد إنزالها. عدت إلى استفساره: ولكن، لماذا لا تنزل الحمولة الزائدة قرب مبنى المطار، حيث التسهيلات الفنية؟ وهل ستنزل الحمولة في نهاية المدرج؟ وكيف؟ لم يرد قائد الطائرة، فعدت إلى مقعدي لا ألوي على شيء.
بعد نصف ساعة تقريباً، حلقت الطائرة، ولم ألاحظ إنزال أية حمولة زائدة. وبعد ما يزيد على عشرين دقيقة من الطيران، لم تُطفَأ إشارة عدم التدخين، ولما كنت من المدخنين، فقد انتابتني حالة من الانزعاج. كنت أريد أن أدخن، بعدما حُرمت من متعة السيجارة مدة ليست بالقصيرة.
توجهت ثانية نحو غرفة قائد الطائرة لأستفسر عن سبب عدم إطفاء شارة «عدم التدخين»، فوجدت القائد منشغلاً بالحديث عبر جهاز اللاسلكي، كما لاحظت طائرتين أخريين تحلقان قريباً من مقدمة طائرتنا. لم يجب قائد الطائرة، غير أن مساعده استفسر عمن أكون، فأخبرته بصفتي الرسمية، وأنني أريد أن أدخن سيجارة، واستفسرت منه عن سبب هذا التعسف.
التفت إليَّ مساعد القبطان، وبلهجة لبنانية، قال ما مفاده أن طائرتنا مختطفة من قبل الإسرائيليين، وأنه سيضطر إلى الهبوط في مطار إسرائيلي. ورجاني عدم إخبار المسافرين كي لا تحدث حالة من الهلع قد تؤدي إلى سقوط الطائرة في البحر.
عدت إلى مقعدي وأخبرت زوجتي وولدي بالأمر. وتحسباً لما قد يحدث، ودَّعتهم قائلا: إن الإسرائيليين قد يحتفظون بي كرهينة إلى حين استبدالي مثلاً ببعض الموقوفين في العراق بتهمة التجسس لحساب إسرائيل. ثم توجهت إلى حيث يجلس فرحات وبركات وأخبرتهما بالأمر واقترحت عليهما مغادرة الدرجة الأولى إلى الدرجة الثانية والاختلاط ببقية المسافرين. هبطت الطائرة بعد دقائق معدودة، في مطار عسكري في إسرائيل. فُتح باب الطائرة الأمامي وصعدت إليها مجندة إسرائيلية تحمل رشاشاً وخلفها ضابط مدجج بالسلاح. تكلما معنا باللغة العربية، وطلبا من الرجال فقط مغادرة الطائرة، الواحد تلو الآخر.
بدأنا بالهبوط، وكنت أول من هبط، ثم هبط قحطان، وتبعه السفير الآلوسي.وقفت عند سلم الطائرة، بانتظار هبوط بقية المسافرين. وكان آخر من هبط رجل مسنً. ظن أن الذين اختطفوا الطائرة هم مجموعة من منظمة التحرير الفلسطينية، مأخوذاً بسمعتها في خطف الطائرات، وراح العجوز يحدث الضابط الإسرائيلي ويؤكد له أنه عراقي مؤيد لمنظمة التحرير ومتحمس للقضية الفلسطينية، وأن تبرعاته المالية للمنظمة مستمرة بدون انقطاع،، كل هذا وهو يظن أن من يتحدث إليه هو فلسطيني من منظمة التحرير. بعدما هبط جميع الرجال، توجه الإسرائيليون بنا إلى مجموعة من الباصات التي كانت رابضة على مدرج المطار.
كانت عدسات التلفزيون، في هذه الأثناء، تصور عملية الاختطاف لحظةً بلحظة. جلس المسافرون في الباصات، أما أنا وقحطان والسفير الآلوسي فقد خصصوا لنا سيارة باص كبيرة لوحدنا، في حين امتلأت الباصات الأخرى بالمسافرين. استغربت الأمر، لماذا يخصصون لنا نحن الثلاثة سيارة كبيرة بكاملها؟ استفسرت من الضابط الذي كان يقف داخل السيارة وبيده رشاش، عن سبب عزلنا عن بقية المسافرين، فأجاب باللهجة المصرية: «علشان أنتو شخصيات يا معالي الوزير».
سألته عن المدة التي سنقضيها في «ضيافتهم»، فرد باللهجة ذاتها: «مش عارف. يمكن ساعة، يمكن سنة، يمكن 15 سنة».
وهنا بدأ دحام الآلوسي يرتعش ويقول: أنا عندي مرض السكري. مريض جداً. أريد العودة إلى بغداد.
وأخذه خوفه وهلعه بأن بدأ يهذي كأنه مصاب بحمّى.
أما قحطان لطفي علي، فقد أخرج من جيبه دفتراً صغيراً ومزق منه عدة أوراق ووضعها في فمه وابتلعها. وما إن انتهى من ذلك، حتى صرخ به الضابط الإسرائيلي وأمره بالنزول من السيارة، واقتاده بعيداً عن السيارة بنحو عشرة أمتار، حيث جلس ضابط آخر خلف منضدة، وهناك شرعا في استجوابه، ثم أخذاه إلى مكان آخر.
طال غياب قحطان، ومرت الدقائق ثقيلة، وبعد ساعة تقريباً عاد، فسألته عن الأوراق الصغيرة التي ابتلعها، ولماذا؟ فأجاب بأنها كانت تحتوي على أرقام هواتف فرع بغداد لحزب البعث. قلت: لماذا ابتلعتها وخلقت لنفسك هذه المشكلة؟ ألا تعلم أن تلك الأرقام ليست سرية فهي موجودة في دليل الهاتف؟ ثم سألته: ماذا حصل لك في التحقيق؟ أجاب بأنهم أعطوه مسهلاً وهم بانتظار نتيجة الدواء لمعرفة ما في الأوراق من معلومات.
وجاء جندي إسرائيلي وبيده صندوق يحتوي على قناني عصير البرتقال ليقدمها إلينا. وعلى الرغم من حرارة الجو، فقد رفضنا تناول العصير البارد. كيف نشرب عصير برتقال إسرائيلي، وإسرائيل مغتصبة لأرض العروبة، لا بد لنا من موقف نتحدى به الإسرائيليين. إذاً، لا عصير.
أنزل الإسرائيليون، خلال هذه الفترة العصيبة، بقية المسافرين من النساء والأطفال وجمعوا جوازات سفرنا. بعد ساعتين تقريباً، طلبوا منا الصعود إلى الطائرة، فصعدنا الواحد تلو الآخر. وبعد أن أخذنا أماكننا، صعدت إلى الطائرة المجنَّدة الإسرائيلية وخلفها الضابط الإسرائيلي، نفساهما، وأعادا إلينا جوازات السفر، ثم وقف الضابط وسط الطائرة وقال بلغة عربية: أرجو أن يتأكد كل راكب من حقيبة يده ومحتوياتها. تأكدوا جيداً، ولا تتهمونا بالسرقة. نحن آسفون للإزعاج. رافقتكم السلامة.
هبط الضابط تسبقه المجنَّدة، بينما حلقت الطائرة عائدة بنا إلى بيروت.
كانت الساعة الثانية فجراً حين وصلنا الى مطار بيروت. وما إن هبطت الطائرة، وتوقفت عند مسافة بعيدة عن مبنى المطار، وبدأنا بالنزول، حتى وجدت عند سلم الطائرة ثلة من رجال الأمن في مقدمتهم مدير الأمن العام اللبناني العقيد أنطوان دحداح ومدير الأمن الداخلي هشام الشعار، إضافة إلى سفير العراق خالد مكي الهاشمي، والدكتور عبد المجيد الرافعي عضو القيادة القومية لحزب البعث.
عدسات التلفزيون، كاميرات المصورين، عناصر كثيرة من الجيش اللبناني وغيرهم، أحاطوا بنا مستفسرين عما حصل.
واستغل الرافعي وجود الحشد الكبير من مصوري الصحف والتلفزيون ليُلقي كلمة في تلك الساعة المتأخرة من الليل، مهدِّداً فيها إسرائيل بالويل والثبور وعظائم الأمور، وبالنضال الذي سيستمر حتى الموت.
ذهبتُ وعائلتي إلى أحد فنادق بيروت لنبيت ليلتنا، أو الأحرى ما تبقَّى منها من ساعات. وهناك، اتصل بي من بغداد رئيس الجمهورية أحمد حسن البكر للاطمئنان عليَّ، وقال مازحاً كعادته: يبدو أن الإسرائيليين قد أعادوك بسرعة لأنهم لا يريدون تخطيطاً مركزياً لاقتصادهم. وهكذا، انتهت قصة الاختطاف المثيرة كما شهدتُها وعشتُها. وفي اليوم التالي، غادرت بيروت إلى بغداد، حيث وصلت اليها عصراً، لتبدأ قصة جديدة مع تصريحات رجال السياسة والمسؤولين لا تقل إثارة عن الأولى، لما انطوت عليه من إضافات أو مبالغات، هي جزء من طبيعة العقلية العربية في تعاملها مع الإعلام، ومن طبيعة الإعلام العربي نفسه.
وقد وجد الإعلام العراقي في حادثة الاختطاف فرصة سانحة لاستعراض شعارات مواقفه من القضية الفلسطينية، ولا سيما أن بياناً رسمياً كان قد صدر في أعقاب الحادث يعلن عن احتفاظ بغداد بكامل حقوقها في الرد على عملية الاختطاف.
بعد عودتي إلى بغداد بأيام قليلة، قرأت تصريحات لتقي الدين الصلح تفيد بأن المخابرات اللبنانية كانت وراء إنقاذ جورج حبش من المصير الذي كان ينتظره في إسرائيل. وبالرغم من هذا الادعاء، وما ادعته لاحقاً أجهزة أمن المقاومة الفلسطينية من أنها كانت على علم مسبق بنوايا إسرائيل، لم أصدق تلك الادعاءات لأمر بسيط، هو أن حبش قد جاء إلى المطار، بنفسه، وأراد أن يستقل الطائرة ولكنه لم يجد مقاعد كافية له ولرفاقه، وكان هذا المانع هو السبب الوحيد وراء إلغاء سفره. أكدت لي هذه الادعاءات أن مطلقي التصريحات لم يتحرّوا عن كيفية حصول إسرائيل على المعلومات المتعلقة بتحركات المقاومة الفلسطينية، وبالتالي معرفة موعد سفر الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، لأنني كنت على قناعة بأن إسرائيل لم يكن بإمكانها الإقدام على عملية الاختطاف من دون وجود عميل لها داخل صفوف المقاومة، أو حتى داخل السفارة العراقية، أو في مكتب الخطوط الجوية العراقية في بيروت: عميل على اتصال بالمقاومة الفلسطينية أو مع أصدقاء المقاومة والمتعاطفين معها، تثق بمعلوماته لتتحرك بسرعة وتهيئ أجهزتها وطائراتها الحربية لاختطاف طائرة مدنية، وإجبارها على الهبوط في مطار عسكري، وفرت على مدرجه كافة مستلزمات «استضافة» ما يقارب مئة راكب، من سيارات، وعصير برتقال، وضباط استجواب، وكاميرات تصوير، وعدسات تلفزيون.
* من هي أمينة المفتي وما هو دورها باختطاف طائرتنا ؟
* بعد مرور أكثر من 16 عاماً، صدر في الولايات المتحدة الأميركية كتاب بعنوان «كل جاسوس أمير» Every Spy a Prince لمؤلفيه يوسي ميلمان YossiMelman ودان ريفين Dan Raviv، يبحث في دور المخابرات الإسرائيلية، وكيفية إنشائها، وتكويناتها، وكذلك في العمليات التي قامت بها تلك الأجهزة في الخارج.
ويشير المؤلفان بالتفصيل إلى عملية اختطاف طائرتنا وهوية عميلة الاستخبارات الإسرائيلية التي زودتهم بالمعلومات. وعرضا قصة الاختطاف بتفاصيلها وحيثياتها، وكيف جاءت في سياق تاريخي محدد، ومما ورد في الكتاب: بعد أن تفككت منظمة التحرير الفلسطينية نتيجة لحملة الاغتيالات التي قام بها الموساد، اتجهت رغبة المخابرات الإسرائيلية إلى تصفية عدوها جورج حبش، الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وفي العاشر من آب (أغسطس) 1973، اعترضت طائرات حربية طائرة ركاب لبنانية وأجبرتها على الهبوط في مطار (إسرائيلي) عسكري.
اقتيد الركاب فردا فرداً إلى خاًرج الطائرة للتحقيق، لكن لم يكن بينهم زعيم إرهابي (كذا)… وقد أُطلق سراح الركاب، وعانت الموساد من إحراج شديد.
ويبدو أن المعلومات عن احتمال وجود حبش على متن تلك الطائرة قد وصلت إلى إسرائيل من عميلة إسرائيلية في صفوف المقاومة الفلسطينية، ولقد كانت تلك العميلة تدعى أمينة المفتي.