فرج ياسين
تتعدد مداخل نقد الشعر ومقارباته ، بتعدد الثقافات والآيديولوجيات والمناهج ، ومع كل ما يمكن ان تتيحه الرسوم والتحديدات فإن القراءة تظل عملاً فردياً ينهض على استجواب النص في حجرةٍ سرية موصدة ، هي مشغل الناقد ، الذي حين ينشر على الملأ نتائج عمله ، يفترض أن ليس ثمة ما يشبهها . ومع أن المناهج الحديثة استطاعت أن تؤسس خارطة طريق زاخرة بالألوان والأبعاد والخطوط في جانبي التنظير والتطبيق ، إلا أن القصيدة تظلُّ عملاً احتمالياً يستدعي مشغلاً ينفتح على قراءة أو قراءات احتمالية ايضاً .
في قصيدة ( حرريني من قبضتك ) للشاعر العراقي طلال الغوّار تتيح القراءة الاحتماليّة إطلالة ذات أربعة مرتكزات يكمل أحدها الآخر ، ونزعم أنها تصلح لأن تغدو مقتربات عمليّة على نحو ما .
أول هذهِ المرتكزات ينتمي إلى تقليد شعري معروف في الأدب العربي ، يتجلى في مخاطبة الشاعر شعره أو قصيدته ، إذ إن قصيدة الغوار تنحو هذا المنحى مُذكرّة بشواهد كثيرة ، منها قول أحمد شوقي :
أعرني لسانا أيّها الشعر للشكر
وإن لم تطق شكراً فلا كنتَ من شِعرِ
وجئني بنور الشمس والبدر كي أرى
بمعناك نور الشمس يُشرق والبدرِ
أو قول أبي القاسم ألشابي :
أنتَ يا شعر فلذةٌ من فؤادي
تتغنى وقطعةٌ من وجودي
فيك ما في جوانحي من حنين
أبدىّ إلى حميم الوجود
وللشاعرة ( هيام أبو الزلفا ) من فلسطين ، قصيدة بعنوان ( اكتبيني ايتها القصيدة ) منها :
(( … استوطني وجداني
استلقي على حلمي
وعندما تصلين ثمالة اليقظة
اجلسي واكتبيني ))
وكما أن شوقي يطلب من الشعر أن يعره لساناً ، وإن ألشابي يجعل الشاعر فلذة من فؤاده ، وإن القصيدة ما تفتأ تدق باب لغة الشاعرة هيام أبو الزلفا وتستوطن وجدانها ، فإن الشاعر طلال الغوار يقول عند قصائده :
(( إنها آخر ما تبقى لي
كل صباح تتأبطني وتمشي معي
في طريق لا تنتهي
وهي تشير بإطراف كلماتها :
تلك أيامك ! ))
ونر ى أن التعامل مع الشعر والقصيدة – القصائد – على هذا النحو يدل على تماهي الشعر مع ذات الشاعر ، وعلى قوّة الآصرة التي تشدّه إلى منطقة الوجدان والتصورات والأخيلة التي تنهض بدائل سائغة لعلاقة الشاعر مع الأشياء ، وإلاّ فلماذا يخاطب الشاعر شعره ، لماذا يعاتبه و يستنطقه ويلومه ويحّمله ما ليس فيه؟ كما أن هذا التماهي يدل على أن الشعر وحده محط ثقة الشاعر لأنه مجال إطلاق مواقفه وأفكاره من دون خوف ، على أن كل ذلك يعد من قبيل تجليات الرؤية الرومانسيّة المتمركزة حول الذات .
أمّا المرتكز الثاني فإنه يتمثل في بناء القصيدة التشكيلي ، إذ إنها تتألف من خمسةٍ وستين سطراً شعرياً ، يتفاوت عدد كلماتها ، على وفق ما يتطلبه الإيقاع الذي يجد أبلغ تعبير له بتقانة الصمت الدال ، المُعبّر عنه بإشارة الفراغ ( …. ) في السطرين الثامن والعشرين والتاسع والعشرين . وتتألف جملة العنوان من فعل أمر ( حرريني ) ومن الجار والمجرور المتعلقان بعناصر جملة الأمر ( من قبضتك ) . فيغدو العنوان ذو صفة استباقية ؛ لأن الشاعر سوف يعاتب القصائد ويتوسَّلُها ، ويلحق في إسناد تغيير المصير إليها ، على أنّ ثمة محذوف مأهّل للتقدم على فعل الأمر وهو ( أيتها القصائد ) من دون أن يخل ذلك من صيغة الأمر السائدة في العنوان ، والمحلقة في أجواء القصيدة ، على فرض أن العنوان يمتلك طاقة تلخيصية تجميعية تشمل جميع مفاصل النص . كما تتألف القصيدة من ثلاثة مقاطع مفترضة لأن الشاعر لم يضع فواصل بينها بل اكتفى بتدرج بنائها الدلالي الذي يلمح من خلال سيرورة تهيمن عليها تقانة السرد الذاتي . ففي المقطع الأول يؤكد الشاعر على أن قصائده هي كل شيء بالنسبة له :
(( بعد كلّ هذهِ المساءات التي
ذرفتْ أشجانها في صحوتي
والانتظار الذي ملأ سلالي بالغيب
أَنتحي طرفاً آخر من حياتي
وأترك قصائدي تنزفني وجعاً مراً ))
وفي المقطع الثاني الذي يبدأ من السطر العشرين ، يمنح الشاعر امتيازاً خاصاً لقصائده ، لأنها نظمّت حياته ، وسددّت خطواته ، واقترحت الأسئلة الكبيرة التي شكّلت مجسّات رمزية لروئيته التأملية والعاطفية والنفسيّة ، لذلك انطوت هذهِ الأسئلة على معترك الهموم الإنسانية المرمّز لها بالنهر والأناشيد والنوافذ :
(( أيها النهر لماذا كثرت التواءاتك
وأسنت خلجاتك حتى توقفت عن الغناء ؟
أيتها الأناشيد ، لماذا تعريت عن المناديل ؟
أيتها النوافذ ، لماذا تتحينين الفرص لاقتناص الشموس؟ ))
وبما أن قصائده هي المسؤولة عن وضعه في مجرّة هذهِ الأسئلة الكبيرة ، وهي التي أحكمت مواجهته مع الذات ، ومع الأشياء ، فإنه يختم هذا المقطع بقوله :
(( أيتها القصائد
…
…
حررَّيني من قبضتك! ))
أما المقطع الثالث الذي يبدأ من السطر الخامس والأربعين ، فإنه يكشف لنا سبب هذهِ الوقفة المطوّلة أمام الشعر ومعه ، إذ إنه يطالب قصائده بأن تهرع الى حل اشكالات الأسئلة والقيام بمهمة عصية عليه وهي تخليص بلده من الأعداء لأنهم:
(( قبضوا على المزارع والأنهار
وقبضوا على الطرقات ،
على الصباحات والنوافذ ))
وإنَّ تكرار كلمة ( ما جدواك ) أربع مرّات في هذا المقطع إشارة إلى أن الشاعر يحيل على قصائده مهمة غير اعتيادية ، إذ يطالبها ضمناً بأن تعوض عنه في فعل ما لا يقوى على فعله .
أما المرتكز الثالث فإنه يستمد أهليته من طبيعة اللغة الموظفة أسلوبّياَ في النص حيث تراوحت بين التقريريّة في بعض الأبيات ، واستعمال أدوات النداء والاستفهام والتعجب . وجاء تكرار ياء المتكلم متوافقاً مع طابعها الوجداني حين واكب انثيالات السرد ، وتكرّر إحدى وعشرين مرّة مِمّا سوّغ الطابع الذاتي لبنية القصيدة ، أسوة بالاستخدامات الأسلوبّية الأخرى – سالفة الذكر – على أن كل ذلك يعد مفتاحاً لأنسنة القصائد كما يكشف عنها المرتكز الرابع للتحليل ، إذ إن لفظة قصائد تحتمل تأويلاً يشكل مستوى الغياب في النص لأن القصائد تمنح طاقة فعل إنسانيّة بقرائن طلب الشاعر منها أن تنهض بما لا يقوى عليه هو . أي تغدو القصائد بديلاً لأرادته وعزيمته وفعله ، فهو يطلب منها أن تحرره من العجز ، وتطلق مكامن القوّة وتنقذه من التأمل الهاملتي ، وتسلكه في الفعل الواقعي ، كما يطلب منها أن تجردّه من كينونته المسترخيّة ، ومن أسطوريّة وجوده ؛ لأن العقد الذي بينهما لا يتعامل إلاّ مع الكلمات .. ولأن في لاوعي الشاعر تعشش هذهِ القوّة السحرّية للكلمات ( أخرجيني من جب الكلمات ) ، التي ينصبها بديلاً للفعل ، وهو يعدّها ( جُبَّاً ) لأنها تنأى به عن سبيل الفعل ، لذلك يكتسب الخطاب . في هذا الجزء طبيعة التوسّل الحزين . ولأجل أن يستميل القصائد من أجل الخروج من جسده ، وقد أصبحت – الآن – مسّاً شيطانياً ؛ فإنه يُضطر إلى استحضار الحجج التي تسوّغ تلك الدعوّة ، وبذلك تغدو أنسنة ( القصائد ) ، مدار مرتكزات هذا النص الشعري ، الذي يمتلك – بحق – مواصفات الجدّة والتميّز .