بمستطاعي وتحت يميني الراسخة، أن أُفتي بأنني قد وجدتها. صاحبي نصَحَني أن لا أفتح مكتوبي بالباء وأخواتها، لقبح المجرور في أوّل الكلام. أظنُّ أنَّ خلّي لم يكن عالما. ربما كان من ثرثاري قعدات آخر الليل، أو متكئات رأس الشارع. لستُ معنيّا بوجه البومة.
هذه المرة بدأتُها بالباء الساحلة، والقادمة سأشتلُ على بابها لاما بمقدورها جرَّ البعير من ذيلهِ. مشاكل اللغة أعظم من معامع الناس. بلبلة تأريخية متّصلة. اللغة غدّارة قاسية. أسوأ أصنافها هي تلك التي يسمّيها النقدة حمّالة أوجهٍ. كأنّك في عوزٍ بائنٍ لتفريخ الحروف كي تخلقَ جملةً تخلو من دسيسةٍ وتدويخ رأس. أنا أفضّلُ نفريّة ضِيق العبارة واتّساع الرؤيا.
لا أدري تماماً لغز الخلاف الهابيلي القابيلي الذي ساحت على عتباتهِ أول دماء لم تسجّل ضد مجهول. سأُعيد إنتاج الطقطوقة العتيقة: ماتَ الرجلُ. مات هنا فعلٌ ماضٍ مبنيّ على الفتح، والرجلُ فاعل صريحٌ مشعٌّ مزهوٌّ بالضمة الراقصة. الرجلُ هنا هو الفاعل وهو الذي أماتَ نفسهُ. سنسمّن الجملةَ وننفخها ونكتبها على صورة ماتتْ الناس. نفس الفعل مع خرافة اسمها تاء تأنيث فائضة لا تهشّ ولا تنشُّ، وفاعل الموت هم الناس أنفسهم. هذا تأويل ينفعُ الحاكم الذي سينادي بالناس، إنّ من أراد أن يموتَ فلهُ ما أراد واشتهى، ومن رغبَ في العيش فلهُ ذلك، مشروطية أن لا يُصيّر اللغة عكّازاً لميتةٍ شنيعة. سيخرجُ عليَّ واحدٌ من جبّ الصحو ويشيلني صوب باب مسألة نائب الفاعل. سأكرههُ وأسبّهُ وأقصفهُ قصفةَ قاصفٍ إذا قصفْ.
اللغةُ أُمّ المصائب والحرف اللائبُ أبوها.
للمسلمين مثلاً، ربٌّ واحدٌ وقرآنٌ واحدٌ منزّلٌ على صدر نبيٍّ واحدٍ، لكنّهم الآن ومن قبل الآن ما انفكّوا يتناطحون ويتذابحون ويأكلُ بعضهم لحمَ بعضهم، بسبب من سطل زيت اللغة الذي يصبّ فوق نار خرافةٍ ميتةٍ غبية. يقتلك لأنك تتضادد معه في تفسير هذا النصّ السماويّ شديد الوضوح والرحمة، وذاك القول النبويّ الطيب الذي قسّمهُ تجّار دكة الدين، إلى ضعيفٍ وقويٍّ ومجروحٍ ومزروعٍ بموضع شبهة.
سيأتيك مخبولٌ من نفس طينة مزاد اللغة ويبلبل مخّك بمعامع التأويل والتفسير والاجتهاد والأعلم والأقوى والأضعف. سينطُّ من جحرٍ مظلم، واحدٌ يفتيكَ بأنَّ ثمة عطبا كان وقع على فاتورة تسلسل الولاية بُعَيدَ محمّدٍ اليتيم العظيم، فتتساهل وتترقّق معه وتصير رقبتك رقبة بعير، وتتوسّلهُ أن يقرأ المسألة من باب تأريخٍ بادَ وانقضى واحتملَ الصحَّ والغلطَ، لكنّ هذا المخدَّرَ المسودن لن يتركَ ياقتكَ حتى يذبحك بسكّين التأويل.
أيها الناس من مغاربها ومشارقها والمنتهيات: تعالوا إليَّ فأنا مثلكم أحبُّ الله المسهّل الجميل الذي يحبُّ مخلوقاته كلّها. سأكون مرجعكم الذي لا يكلّفكم جبلَ قهرٍ فوق قهركم. سنصلّي ونسلّم ونصوم ونرتّل النصَّ ترتيلا. لا تكذب ولا تقتل ولا تسرق ولا تنتخمْ، إنّ في خبزكَ ولبسكَ حقٌّ للعراة والجائعين. أمّا الجوهر فيبقى في دفترك جذراً قوياً وحسنَ مآب، وأمّا المظهر فيذهب مدحوراّ مثل رغوة موجة، ساعتها ستختفي أبداً مؤبّداً، صورَ المقمّلين المقطّمين المهرطقين المنغّلين الذين يذبحون ابنك ويفضّون زوجكَ ويشوون أباكَ ويحرقون قلبك بغير حساب