ان نظرة فاحصة على حياة لفيف من الادباء والمفكرين تكشف ان المرض يزيد الموهبة وثوقا وتمكنا ، فتتناسق الكلمات مثل الميكروبات وسط الام القرحة ونفاث الدم ، وقد دلت الكشوفات الطبية على ان كثيرا من الكتاب الموهوبين الذين احدثوا قفزات في مسيرة التاريخ الادبي وتركوا بصمات واضحة على صفحات الابداع الفني ، كانوا يعانون من مرض ما ، فتوماس مان وفرانز كافكا كانا مصابين بمرض السل ، ونيتشه كان يعاني من مرض الزهري وكذلك جول غنوكور وموباسان ، وجيرار ترفال كان مجنونا ، ديستويفسكي كان مصابا بالصرع اما مارسيل بروست فقد كان موبوءا يكتب مثلما يتنفس ويجعل فواصل جمله على قدر حشرجته ، واسماء هولأء المشاهير للذكر لا للحصر فالقائمة طويلة وتشمل آداب الامم على مختلف الحقب ولنا في الشابي والسياب من الادب العربي المعاصر اقرب مثال ، والسؤال الذي يتبادر الى الذهن بعد الاطلاع على نماذج من العباقرة المرضى : هل يخلق المرض الموهبة او النبوغ هو الذي يسبب المرض ؟ مما لاشك فيه ان حرفة الادب والانشغال بالابداع عموما يولدان المتاعب والاوجاع ويدخلان اضطرابا على نسق الحياة العادي ولكن قد تكون الموهبة مقرونة بالمرض كما قال احد النقاد الفرنسيين ، وقد كان بروست يختنق بالربو ولقد فاجأته اول ازمة اختناق عام 1880 وهو لم يتجاوز بعد عامه التاسع حين كان عائدا من فسحة عائلية ولم يستطيع الاطباء في ذلك الوقت ان يخففوا من آلامه مما اضطره الى محاولة صيانة نفسه بنفسه وقد كتب يقول: “انا في ازمة ربو حادة ، صوت حشرجاتي يغطي صوت قلمي وحتى صوت شخص يستحم في الطابق العلوي .. هذه الازمات اليومية لاتنتهي الا عند المساء ولما تنته تتركني ، في هذا الموسم وسط سحابة من الدخان حيث لا سمة تبدده انت ترفض ان تدخل حيث هي اقسم لك انك لن تكون فيها الا دموعا وسعالا ، وانا الذي لايمكن ان يدنو من زهرة دون ان يقع في الحال تحت سيل من العطاس . بقي ان نعرف ان كانت اعماله ناتجة عن الربو ام لا ، دونما شك يجيب طبيب يدعى ريغان في دراسة اعدها عام 1945 بالنسبة الى انسان عادي فان الورد هو الورد ، اما بالنسبة الى بروست فان الورد ليس الا ازمة ربو خانقة ، ذلك ان اية رائحة او أي تيار هوائي او اي هبة ريح هي بالنسبة اليه انذار بـآلالم مبرحة وفي الوقت نفسه نقطة انطلاق للبحث عن زمن ضائع الى الابد .. زمن الطفولة الاولى حينما كان بوسعه ان يقترب من الازهار والثمار والاغصان والفساتين دونما خوف حينما كانت الاحساسات في متناوله دنما خشية اما فلوبير فقد كان مصابا بالصرع وكذلك فان كوخ ورغم ذلك لم يجرؤ واحد من الدراسين فيعزو نبوغهم الى المرض ولكن الامر يختلف مع دستويفسكي اذ لم يتردد كثيرا منهم من جعل المرض سببا اساسيا في نبوغه وشهرته وصارت صفة دوستويفسكي مرجعا يميل الى الصراخ الهستيري وميل ابطاله إلى استخدام السكاكين والفؤوس . ورسم صور المجانين والشبقيين الذين يغتصبون بناتا صغارا ولعل اخطر ما وجه الى دستويفسكي ما نشره عام 1913 ستراخوف وهو احد المتهمين بتدوين سيرة دستويفسكي فقد كتب يقول: “حدثني فيسكوفاتوف انه يقصد دوستويفسكي “تباهي باغتصابه في حمام عام بنتا صغيرة قدمتها له مربيتها ومن هنا صار الناس يعتقدون ان الشبقيين هواة اللحم الطري ومغتصبي البنات امثال ستافروغين وسفيد ريغالوف وغيرهما ليسوا الا الكاتب نفسه . لقد كان شخوص دوستويفسكي ينفثون الدم ينفصمون ، يموتون مجانين خاصة في اعماله الاولى يعانون من الكبت الجنسي ودوستوفسكي نفسه مات في الستين بمرض نفث الدم الناتج دون شك عن السل . وبالنسبة لكافكا الذي كان يعاني من نزلة رئوية حادة فكان يبصق بقع الدم في الليل وشعر ان حياته قصيرة بعد تشخيص مرض السل الرئوي الذي اصاب رئتيه الاثنين كان عمره في ذلك الوقت اربع وثلاثين عاما ولكن يعزو اصابته لمرضه المعنوي فقد كان يؤمن بأن سنوات التوتر والارق المستمر التي عاشها هي السبب وراء اصابته بالسل ومن هنا كانت غربته في الاعتزال والسفر والراحة وهنا بدا له مرضه مزدوجا فهو من ناحيته اعلان بان ما تبقى لديه من العيش قليل ، ومن ناحية اخرى ينبغي عليه ان يتمتع بنوع من الحرية لينصرف كليا الى الادب ، ومن أجل الكتابة كان يمضي الليل مرهقا بسبب الحمى واوجاع الرأس التي لا تنتهي الى ان استولى على روحه المرض الاول مرض الكتابة فاتى على جسده بالكامل .
- info@alarabiya-news.com