اردوغان ينكب على منخريه امام تيوس الجزيرة العربية ويقود تركيا الى كارثة
يوم بدأ أردوغان يتدخل في الشأن السوري، ويُصدرالإنذار تلو الإنذار للسوريين بأن صبره يوشك على النفاد، كنت، شأني شأن أي مراقب للأحداث عن بعد، أعيش حالة من يفيق من حلم جميل، فقد كنا حتى ذلك الحين مستبشرين بإزالة الحدود بين تركيا وسورية فيما بدا لنا إيذانا بانطلاق الشرق الأوسط الجديد الذي تلعب فيه تركيا بثقلها السياسي، والبشري، والاقتصادي دورا رائدا في العالم العربي عبر البوابة السورية. تدخُل أردوغان في الشأن السوري يومها – وأنا هنا أشير إلى إنذاراته بنفاد صبره، وليس إلى أي شكل من التدخل الفعلي، كان يثير أسئلة صعبة، فما كنا نراه من انفتاح انقلب فجأة إلى انغلاق مفجع، وصار خط الحدود الذي أدخل بانفتاحه السرور والأمل في قلوب ملايين الناس على جانبيه ينذر بالشؤم، ويذكّر بخط الحدود بين العراق وإيران بين سنوات 1980 و1988. في تلك السنوات العجاف أيضا كنا نعيش صدمة فقد كنا نأمل أن زوال حكم الشاه في إيران سيفتح أبوابنا على مصاريعها للجمهورية الإسلامية التي حولت توجهات إيران بمائة وثمانين درجة نحو التحالف مع العرب ضد الكيان الصهيوني، لكننا تحولنا بدلا من ذلك، بسبب مقامرات صدام حسين، إلى بوابة للموت المجاني بمئات الآلاف. ويومها كنا ندرك أن التيس السعودي لعب بعقل صدام لعبة التيوس فحدث ما حدث. وصرنا في حالة تركيا وسورية نخشى أن تكون الأصابع السعودية والقطرية الخبيثة قد بدأت أيضا لعبة التيوس على الحدود بين البلدين. ولم يخطئ إحساسنا. وكان السؤال الذي يحيرنا هو: لماذا يجري إجهاض أكبر انفتاح اقتصادي، وسياسي، وثقافي بين بلدين في منطقة تعبت من التقسيم والصراعات؟ وكان الجواب الحاضر على الألسنة أن أردوغان يريد الحرية والديمقراطية للشعب السوري.
وكان الجواب يعود ويثير أسئلة أخرى: إذا كان نقص الحرية والديمقراطية في سورية يقلق أردوغان بحيث يجعله يضحي بذلك المشروع العظيم، وبمصالح تركيا في ذلك البلد، فلماذا لا يؤرقه الغياب المطلق للديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان في السعودية وقطر؟ لماذا يضع أردوغان، وهو الذي يدعي أنه وريث العثمانيين، يده بأيدي هؤلاء التيوس وهو يعرف أنهم كانوا خنجرا مسموما في ظهر الدولة العثمانية قبل قرن من الآن؟ وكل جواب على أي سؤال لم يكن إلا ليثير المزيد من الأسئلة. وقيل يومها إن أوروبا لن تسمح لتركيا بأن تصبح مركز استقطاب للدول المسلمة من حولها، فتكوّن اتحادا خاصا بها يوازي في سعته وقدراته الاتحاد الأوروبي. اسطنبول لن يُسمح لها باستعادة مركزها على أيام سليمان القانوني. وأوروبا تتحرك بشكل أو بآخر لإجهاض الانفتاح التركي على العالم الإسلامي من حولها، وأية أدوات تنفعها في هذه الحركة مثل تيوس الجزيرة العربية! وكان مثل هذا الكلام يثير أسئلة أخرى، منها: هل وريث العثمانيين غافل عن هذا؟
نحن لم نعقب كثيرا على ما قيل، وزعم، وتم إثباته من سياسات أردوغان تجاه سورية، كي لا ننساق وراء الإعلام وقيله وقاله. ولكن، رأينا بعد ذلك الخلافَ يدب أيضا بين أردوغان ونوري المالكي في العراق، وازدادت حيرتنا: وصارت الأسئلة تتوالى على رؤوسنا، وكاتب هذه السطور قال وقتها بكل إخلاص إن هناك مؤشرات خطيرة تبدو في الأفق على تآمر إسرائيلي سعودي قطري على شعب تركيا، وقال كذلك إن بغداد ودمشق قلعتان على الطريق إلى اسطنبول فإن سقطتا فإن الطريق إلى اسطنبول تصبح سالكة أمام الصهيونية وحلفائها من عرب الخليج، وهم يريدون شرا بكل مراكز الحضارة في العالم، سواء في تركيا، أو في سورية، أو في العراق. والحق الحق نقول إن خشيتنا على اسطنبول كانت دائما أكبر من خشيتنا على بغداد ودمشق، لماذا؟ لأن بغداد ودمشق عرفتا على مدى التاريخ الغزاة والفاتحين، وصمدتا دائما، وبقيتا عربيتين إسلاميتين رغم كل شيء، فمن المغول والتتر إلى الانجليز والفرنسيين وغيرهم، مرّ كثيرون من هنا فتغيروا ولم تتغير لا بغداد ولا دمشق. يأتينا الغزاة ويذهبون وقد أخذوا معهم دين هذه الأمة وثقافتها. ويعرف السيد أردوغان أن خمسة قرون من حكم العثمانيين لبغداد ودمشق لم تستطع أن تسلبهما هويتهما العربية. بغداد يحكمها الشيعة، أو السنة، أو المسيحيون لكنها تبقى في آخر المطاف لأهلها، وكذلك دمشق. أما اسطنبول (وقلت سابقا، وأقول الآن أيضا: قلبي على اسطنبول) فإنها إن سقطت (لا قدّر الله) فإنها ستلحق بغرناطة، وقرطبة، وأشبيلية. نعم تجربتنا في الأندلس لا ينبغي لنا أن ننساها، وأوروبا لن يهدأ لها بال طالما اسطنبول إسلامية.
نحن نحترم تركيا، وشعب تركيا، ونعرف أن جزء كبيرا من حقد الأوروبيين علينا وإصرارهم على إذلالنا وسحقنا، وتخريب مدننا سببه ما علق في أذهانهم تاريخيا من سقوط القسطنطينية بأيدي المسلمين الأتراك عام 1453، وما علق في أذهانهم من تلك الجيوش العثمانية الجرارة على عهد سليمان القانوني وهي تحاصر فيينا، وبلغراد، وروما، وغيرها. نحن ندفع ثمن ما قام به العثمانيون في أوروبا باسم الإسلام وتحت رايته، ونحن، وبصرف النظر عما كانت عليه الدولة العثمانية من حق أو باطل، ندين الخيانة التي ارتكبها تيوس الجزيرة العربية بتحالفهم مع الانجليز ضد الدولة العثمانية.
لم نكن لنستغرب ذلك من وريث العثمانيين لو أنه اختار أن لا ينسى الخيانة بحق العثمانيين الذين يدعي أنه وريثهم، ولكن نحن صدمنا بأردوغان يضع يده بيد من خان العثمانيين وطعنهم من الخلف، ويدخل في لعبتهم الخبيثة ضد العراقيين والسوريين الذين لم يخونوا العثمانيين مع أنهم تحملوا منهم الظلم على مدى قرون. حيرتنا تغلبنا عليها بأن افترضنا أن أردوغان يشعر فعلا أنه وريث العثمانيين، لكنه لا يفرّق بين العرب إطلاقا، وكأنه وهو يرى الإرهاب السعودي والقطري في العراق وسورية يقول في دواخله “خاين عرب، بأسهم بينهم”.
لكن السيد أردوغان صار يعودنا على الحيرة، هذه المرة بسياسته إزاء مصر. لقد صرخنا في حينه أن العلاقة القوية بين تركيا ومصر أمر مطلوب، وحيوي، وضروري لاستقرار المنطقة وازدهارها، ولكن لا بد لهذه العلاقة أن تكون مبنية على مصالح دولتين وشعبين بينهما من وشائج الصداقة والأخوة ما بينهما، وليس على أساس علاقة بين حزبين في البلدين. وهنا أيضا تلقينا صدمة كبيرة حين انتهى الانفتاح التركي على مصر بانتهاء حكم الإخوان المسلمين فيها، وذهاب مرسي. تركيا دولة إقليمية عظمى ولا يمكن أن تقوم علاقاتها مع الدول الأخرى على أساس العلاقة مع حزب، أو الصداقة مع شخص، ولكن هذا الذي جرى، ويجري.
وإلى هنا فلا حول لنا ولا قوة، فأردوغان زعيم تركي يصوت له نصف الناخبين الأتراك، والشعب التركي وحده له الحق في محاسبته على سياساته التي لا نستطيع نحن إلا أن نصفها بالمقامرة. لم يعد الأمر يتطلب خبرة كبيرة كي يحكم المرء أن سياسات أردوغان صارت تضر بمصالح شعب ودولة تركيا أكثر بكثير مما تضر بمصالح الآخرين.
واليوم، بظهور طاعون داعش في العراق نرى أن تركيا صارت على مفترق طرق حقيقي في علاقاتها بجيرانها كلهم، وليس بالعرب وحدهم، ولم يعد الأمر متعلقا بمنع تركيا من استقطاب العالم الإسلامي من حولها، بل بتهديدها هي في الصميم. كاتب هذه السطور لا يتهم تركيا بالتآمر على العراق، أو بتسليح داعش (هذا أتركه لغيري ولمن عندهم الأدلة والشواهد على ما يقولون)، ولكني أدق ناقوس الخطر بأن سياسة أردوغان، حتى بلا تسليح داعش، بل مجرد الصمت على ما يدور في العراق، صارت تثير أعمق الشكوك، فهي لا تضر بالجيران فقط، بل وتفتح ثغرات كبيرة في أسوار تركيا نفسها. تنبهوا: المؤامرة السعودية القطرية الصهيونية على شعب تركيا تسجل نجاحات ملموسة.
على أية حال هناك على الأقل أمران نعتبرهما مصدرا للحيرة والشكوك حول سياسة أردوغان، وينتاب الكثيرين من أصدقاء الشعب التركي القلق منهما، ونرى أنه ينبغي للسياسيين الأتراك الانتباه إليهما في تعاملهم مع العراق الآن في ظل الهجمة السعودية الصهيونية الداعشية على شعب العراق.
أولا) التركمان ومسألة كركوك
تركمان العراق ينظرون إلى تركيا، تاريخيا، على أنها ضمانة لهم ولحقوقهم باعتبارهم أقلية بين قوميتين كبيرتين في البلد، العرب والأكراد. لا نقول إن التركمان عندهم ولاء لتركيا بدلا من الولاء للدولة العراقية. أبدا، فولاؤهم للبلد الذي يعيشون فيه، وهم على أفضل علاقة بالآخرين، خاصة العرب. ولكن عندهم في وعيهم القومي ارتباط عميق ذو طابع لغوي، وثقافي، وسياسي بتركيا وبالشعب التركي، ويسود بينهم تقدير بأنهم في الملمات يدخلون تحت مظلة تركيا، فهي ملزمة أخلاقيا بحمايتهم، ودعم حقوقهم.
التركمان في العراق عاشوا على مدى القرن الماضي، بعد انهيار الدولة العثمانية وانسحابها من العراق، في وضع مستقر قياسا إلى ما عانى منه غيرهم، ربما بفضل العلاقات الجيدة بين تركيا والعراق. أما اليوم فيعيش هؤلاء صدمة مروعة، فعصابات داعش تجتاح قراهم، ومدنهم، وتحرق بيوتهم، وتغتصب نساءهم، وتقتل أطفالهم لا لشيء إلا لأن أكثريتهم ينتمون إلى الطائفة الشيعية – هذه سياسة إجرامية وهابية سعودية صهيونية. يقلقنا أن أردوغان صامت صمت القبور إزاء ما يحدث للتركمان في العراق.
أردوغان يخذل، بصمته الذي يوحي بالقبول، تركمان العراق، ويتخلى عنهم، ويتركهم للموت، والهلاك، والإذلال على أيدي العصابات الوهابية التي تفتقر إلى الشرف والإنسانية في وقت تعجز فيه الحكومة المركزية عن حمايتهم. وما يحيرنا هو أن الجميع، ما عدا أردوغان، يدرك أن هذا الوضع يفتح ثغرة في أسوار تركيا، فهناك، كما يقول بعض الأتراك، أربعمئة مليون إنسان في العالم يتكلمون هذه أو تلك من اللهجات التركية، ويرتبطون بشكل أو بآخر بتركيا بنفس طريقة تركمان العراق، ولتركيا عندهم مكانة الوطن الثاني. إن موقف أردوغان – حتى الصمت، وليس بالضرورة التدخل لصالح داعش، يرسل إشارة سيئة إلى هؤلاء في كل العالم: تركيا لم تعد لها في ظل أردوغان مسؤولية أخلاقية تجاه التركمان في العالم!! ربما صدرت سابقا إشارات سلبية من ناكارنو كرباغ في أذربيجان. أما في العراق فهناك كارثة تحيق بسياسة أردوغان.