بارازاني يهرب من الموت على يدي طالباني بدبابة من دبابات صدام
السعودية تذبح المسيحيين في سورية والعراق كما ذبحت تركيا الارمن
تُرى أية مصلحة لتركيا في الصمت على المجازر ضد التركمان في العراق الذين يستهدفهم حلفاء أردوغان السعوديون في داعش لمجرد أنهم شيعة؟
الجرائم التي ترتكبها داعش في شمال العراق وغربه تتسلسل من تهديد وحدة العراق إلى أبسط حقوق الإنسان الفرد، وبين هذين القطبين من الجرائم نجد أن أكثر فئتين عراقيتين متضررتين من جرائم داعش السعودية هما المسيحيون والتركمان. ربما لا يشكل المسيحيون مسألة مهمة في توجهات أردوغان، بل على العكس ربما ينفعه أن مستقبل الأيام سيشهد قضية خطيرة ينشغل بها العالم، وجوهرها اتهام أممي رسمي للسعودية وأدواتها الإرهابية بارتكاب مجازر بحق المسيحيين في سورية والعراق، قضية لا تقل في خطورتها عن تلك التي تهدد بها أوروبا دائما تركيا تحت مسمى “مجزرة الأرمن”. والحليم تكفيه الإشارة.
أما مسألة التركمان فستلاحق تركيا وليس السعودية، فالتركمان هم المجموعة القومية الثالثة في العراق بعد العرب والأكراد، وكان هؤلاء يتركزون في مواقع جغرافية معروفة تاريخيا أكبرها وأهمها مدينة كركوك حيث كان التركمان حسب الاحصائيات الرسمية حتى الستينيات من القرن الماضي يشكلون أغلبية السكان، وكانت كركوك مدينة تركمانية بكل المقاييس. هذه الصورة تغيرت بدءا من السبعينيات في القرن الماضي نتيجة سياسة التعريب التي استخدمتها السلطات في بغداد. ودون الدخول في التفاصيل فإن ظهور طاعون داعش في شمال غرب العراق حوّل مصير المدينة ديموغرافيا إلى اتجاه آخر. الآن سيطرت قوات مسعود البارزاني على كركوك وأعلنتها مدينة كردية، وستشهد المدينة حتما عملية تكريد بشعة تختزل وجود التركمان في المدينة بأحياء متناثرة هنا وهناك. أما في المواقع الجغرافية التركمانية الأخرى مثل طوز خورماتو، وتازة، وبشير، وقرة تبة، وتلعفر، وعشرات غيرها، فإن التركمان فيها أصبحوا شذر مذر، ومزقتهم أنياب داعش وحولتهم إلى لاجئين في المخيمات، ناهيك عن أن مناطق واسعة في ديالى يختلط فيها التركمان بالعرب والأكراد تحولت هي الأخرى إما إلى مسالخ بشرية تحت سواطير داعش، أو مخيمات لاجئين تحت رحمة مسعود البارزاني. التركمان لم يعد لهم في ظل دواعش السعودية كيان جغرافي في العراق. ونتساءل: إذا كان وريث العثمانيين يسره أن يرى نار العرب تأكل حطبهم، فما الذي يسره في رؤية تركمان العراق، وهم من نسيج العثمانيين، يتحولون إلى قوم من الغجر؟
ثانيا) القضية الكردية
نحن لا نبالغ في توقعاتنا من تركيا، فقد سبق لكاتب هذه السطور أن بين أن كون تركيا جزء من منظومة حلف شمالي الأطلسي يفرض عليها التزامات لن تتملص منها أية حكومة تركية حتى ولو كانت إسلامية، أو اشتراكية، ولكن نقول أيضا إن تركيا ليست محرومة من إمكانيات المساومة في سياساتها، فهي حجر الأساس في جبهة الحلف الأطلسي إزاء روسيا، ويمكنها لذلك أن توازن بين التزاماتها وبين استقلاليتها. أردوغان يضعنا في حيرة، ففي نفس الوقت الذي نرى فيه الاتحاد الأوروبي، وهو وجه من أوجه حلف الأطلسي، يتمدد شرقا بحيث صار يضم تحت جناحيه دولا إلى الشرق من تركيا – أوكرانيا، ويستثني تركيا، فإن أردوغان يعبث بأوراقه القوية لتحقيق رغبته في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي بعزل تركيا عن وسطها الإسلامي أيضا، والولوج في صراعات لا أفق لها مع هذا الوسط، بل ويتخلى عمن يشكل همزة وصل لتركيا مع البلدان الأخرى، الأقليات التركمانية.
أؤكد مرة أخرى أن السماح بتداول مفردات من قبيل “الثوار السنة” في بعض الإعلام التركي مؤشر خطير. تركيا ظلت على مدى سبعة عقود من الزمن بعد انهيار الدولة العثمانية منقسمة بين العلمانيين القوميين وبين العلمانيين اليساريين، وفي العقدين الأخيرين تغيرت الخطوط الفاصلة بين الفئات المجتمعية فيها، فصار هناك العلمانيون القوميون واليساريون من جهة والإسلاميون من جهة أخرى. هل نشهد الآن خط تقسيم جديد في السياسة التركية؟
نحن لا نريد أن يتدخل أردوغان في العراق بأي شكل من الأشكال، إلا ضمن ما هو أخلاقي تجاه الجيران، لكن أردوغان يتدخل وبأسلوب يثير السخرية، فالعلاقة بين أردوغان ومسعود البارزاني لا تترك أي مجال في الشك بأن أردوغان يستخدم العراق استخداما سيئا لتحقيق غايات غامضة في تركيا. إن ما يفعله أردوغان من أجل تركيا شأن تركي، ولكن حيث أنه يتحرك على الساحة العراقية لتأمين مصالح تركيا، فنحن نقدم له بعض النصائح لا غير.
نحن لن نفقد إيماننا بأن مصير شعوب الشرق الأوسط مشترك، ولن نفقد الأمل في أن هذه الشعوب ستدرك وحدة مصيرها فتميل ذات يوم قريب إلى التفاهم، والتوافق كما يفعل الأوروبيون، رغم وجود السياسيين الحمقى في كل مكان. وفي هذا فنحن مع حق الشعب الكردي في تقرير مصيره وإنشاء دولته. لا ينبغي لأحد أن يكون في شك من هذا، ولكن نحن نعتقد أن الدولة الكردية يمكن أن تقوم بشكل موفق بالتوافق مع الأمم المحيطة بالأكراد، وليس رغما عن هذه الأمم، وليس قطعا بالغدر بهذه الأمم. وهذه الطريقة التي يتصرف بها حليف أردوغان، مسعود البارزاني، هي الغدر بعينه.
أردوغان يضع أوراق مصالح حيوية لتركيا، مثلا القضية الكردية، بأيدي مسعود البارزاني. ومسعود هذا يعتبر نفسه – يا لسخرية الأقدار – مترنيخ الأمة الكردية، وهو ليس مؤهلا ليكون ذلك، فهو رجل ذو أفق سياسي ضيق، وليس له شخصية ستراتيجية لامعة مثل مترنيخ، أو حتى مثل جلال الطالباني، بل هو زعيم عشيرة كردية، وضعته الأقدار في المكان الخطأ، مثلما وضعت ذات يوم عزة الدوري في قيادة العراق. مسعود البارزاني لديه في سياسة هذه المنطقة ورقة واحدة وحيدة لا غير، لا علاقة لها بالمرة بواقع الشعب الكردي وإمكاناته، وتوجهاته، وطموحاته، وهي الدعم الإسرائيلي له.
هناك حركتان كرديتان رئيسيتان في العراق هما الاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة جلال الطالباني، والحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة عائلة البارزاني. ومع أن جلال الطالباني تربطه أيضا علاقات مع زعماء إسرائيل عبر ما تسمى بالأممية الاشتراكية، إلا أن الاتحاد الوطني الكردستاني لم يصبح أبدا تربة خصبة لتغلغل الصهيونية إلى كردستان العراق، لأن الاتحاد يحمل أيديولوجية لا يلتقي في منظوره القومي مع الصهيونية. لذلك نرى أنه في غزو العراق عام 2003 واحتلاله تم تعويم جلال الطالباني وحزبه عبر منحه منصب الرئاسة في العراق، وهو منصب فارغ من المحتوى والتأثير، في حين تم إطلاق يد البارزاني كرئيس لكردستان ليتحكم بمقدراتها. تلك كانت مصلحة إسرائيل.
نحن نعرف أن مسعود البارزاني لا يمثل كل الشعب الكردي، ولا حتى أغلبيته، وأن من حوله من مستشارين لا يملكون من الأفق السياسي ما هو أوسع من أفقه هو، على عكس الاتحاد الوطني الكردستاني الذي يتميز كادره بسعة الأفق، والنظرة الواقعية، وكذلك على عكس الحركات الإسلامية الكردية التي تتميز أصلا بنظرة أممية تسمو فوق الاعتبارات القومية.
نقول هذا لأردوغان الذي يبدو أنه يعوّل على استخدام البارزاني في تعامله مع حزب العمال الكردستاني في تركيا – ويفعل ذلك على حساب مصالح دولة العراق وشعبه. إن الطبيعة العشائرية لمسعود البرزاني مضافا إليها ارتباطاته بإسرائيل تجعله في واد غير الوادي الذي يعيش فيه حزب العمال الكردستاني في تركيا. إن أقوى التيارات داخل حزب العمال الكردستاني هو التيار الماركسي اللينيني المعادي للامبريالية والمعادي لإسرائيل خاصة، ولذلك فإن بين البارزاني وبين حزب العمال الكردستاني نار تحت الرماد، وليس هناك أي تأثير للبارزاني على حزب العمال الكردستاني كما قد يفترض أردوغان. ربما يكون الاتحاد الوطني الكردستاني أقرب إلى حزب العمال، وأكثر تأثيرا عليه، وتنسيقا معه.
ثم إننا لا نحتاج إلى تذكير أردوغان بأن الفضل في وجود مسعود البارزاني اليوم يعود، بعد مشيئة الله، إلى صدام حسين الذي أخرجه عام 1996 من أربيل مختفيا في واحدة من دبابات الجيش العراقي لينقذه من قبضة مقاتلي الاتحاد الوطني الكردستاني، وكان مسعود، مع ذلك، من أوائل من غدر بصدام حسين. إن ضعفه يجعله يميل إلى الغدر، وبهذا فإنه لن يتردد لحظة واحدة في الغدر بأردوغان ساعة يرى ذلك مناسبا لغباء مستشاريه.
من الضروري أن نقول بضع كلمات بحق جوهر ستراتيجية مسعود البارزاني، وهذه الكلمات ليست رجما بالغيب، بل إن كاتب هذه السطور يعرف أكاديميين أكراد كانوا يعملون في الدول الاسكندنافية، وكانت له علاقات شخصية بهم، وكانوا يشاركونه الرأي في طبيعة الصراعات في الشرق الأوسط، ولكن فجأة، وقبل فترة وجيزة من غزو العراق عام 2003 ظهر أن أولئك الأكاديميين الأكراد كانت لديهم في السر علاقات بالسفارات الإسرائيلية، وقناعة بأن قيام دولة كردية في شمال العراق ممكن، ويعتمد على شيء واحد، ألا وهو خلق أهمية لكردستان العراق توازي أهمية برلين الغربية لأمريكا أثناء الحرب الباردة، بحيث أن أمريكا تكون مستعدة لإيصال دولة كردستان هذه بالعالم عن طريق الجو، كما كانت تفعل مع برلين الغربية، فلا تحتاج إلى جيرانها العرب والأتراك والإيرانيين الذين يحيطون بها إحاطة السوار بالمعصم، وتقوم رغم أنوفهم. ومفتاح هذه الستراتيجية هو جعل “دولة” كردستان حيوية، وضرورية لوجود إسرائيل وأمنها، وحليفة لها.
رب قائل إن وجود إسرائيل في كردستان العراق يعود إلى زمن المرحوم مصطفى البارزاني في ستينيات القرن الماضي. صحيح، ولكن يومها كانت تلك العلاقات على أساس مقولة “عدو عدوي صديقي” التي لم تنفع، وبقيت في إطار تزويد البارزاني الأب بخبراء عسكريين، فبمجرد أن رفع شاه إيران يده عن البارزاني عام 1975 وجد الرجل نفسه طريدا في العالم، قابعا في مستشفى في أمريكا حيث مات ميتة مذلة. اليوم هناك ستراتيجية عميقة اسمها “كردستان هي برلين الغربية، لإسرائيل” يجري تطبيقها على أرض الواقع عبر تواجد إسرائيلي كثيف في المناطق الكردية الخاضعة للبارزاني، وعبر شبكة من العلاقات المعقدة بين الجانبين. ولهذا يظن البارزاني أن ضعف الحكومة المركزية في بغداد اليوم، والحرب الإرهابية الوهابية السعودية الصهيونية على سورية، وتأمين جانب أردوغان عوامل تطلق يده في تحويل كردستان إلى برلين الغربية الإسرائيلية.
وهنا يبدو أن أردوغان ربما يريد أن يغري مسعود البارزاني بأنه لا حاجة له بفكرة برلين الغربية، فهو يمنحه ممرا إلى البحر عبر تركيا، إن هو سانده في التعامل مع حزب العمال الكردستاني! ربما. ولكنّ عيني “مترنيخ” البارزاني ليست على عروض أردوغان، بل على عصابات داعش فهو متحالف معها علانية لغايتين أساسيتين هما تسهيل احتلال كركوك في نفس الوقت الذي تحتل فيه داعش الموصل، ثم ممر آمن إلى البحر عبر “دولة” داعش في العراق وسورية، أي أن محفزات أردوغان لمسعود لن تجنبه الغدر.
إن القراءة الهادئة لطبيعة هذه المنطقة توصلان إلى قناعة تامة بأن أردوغان ومسعود البارزاني يتعاملان مع السراب، وسياساتهما تدخل تحت عنوان واحد هو “المقامرة الكبرى”، فأهل هذه المنطقة هم عرب العراق وسورية، والأتراك، والأكراد، والإيرانيون، ولا حلول لمشاكلهم إلا بالتفاهم وتبادل الثقة، أما إسرائيل ودولة آل سعود فكيانان مصيرهما الزوال الحتمي، والتعويل على أي منهما ليس إلا مقامرة لا تختلف عن مقامرة صدام حسين بمصير العراق حين سار في ركاب آل سعود.
احتلال كركوك وربط ذلك باستقلال كردستان العراق يكشف مدى قصر النظر السياسي الذي يتميز به البارزاني، فكركوك لن تصنع دولة للأكراد أولا، والحكومة المركزية في العراق ستستردها إن عاجلا أو آجلا، ثم إن كردستان العراق تتمتع أصلا، ومنذ أكثر من عقدين بأقصى استقلالية ممكنة، فماذا سيضيف إعلان قيام “دولة” إلى هذا الاستقلال سوى إظهار مسعود كمترنيخ المسخ؟ على العكس، فإن حلم الدولة سيُجهض إذ لن تعترف بهكذا دولة إلا إسرائيل، وستتحفز البلدان المعنية إلى إجراء اللازم. مسعود البارزاني لن يستطيع بمقامراته فرض الأمر الواقع على الأمم التي تحيط بكردستان حتى لو وقفت وراءه ألف إسرائيل.
وعلى الأرض فاحتلال كركوك ضربة إلى الوجود التاريخي الجغرافي للتركمان في العراق، لكنه في الوقت نفسه ضربة لسياسات أردوغان الذي يتحمل بمقامراته جزءا كبيرا من المسؤولية عما يحدث لتركمان العراق، على الأقل.