(أدب الأطفال) كيف نكتب لأجيال المستقبل؟

ينطلق عبدالرحمن بسيسو في كتابه “أدب الأطفال بين كتابة الإنشاء وإنشاء الكتابة” من فكرة الكاتب والمفكر الروسي تشيرنيشفسكي، الذي يقول “إن الطفل يريد أن يتحدّث الآخرون بصراحة، وأن يسمّوا الأشياء بأسمائها الحقيقيّة، فهو لا يصبر على الزّخرفة والتّلطيف، فإذا ما قلتم له إنّ قنديل البحر بنت لطيفة، وإنّ الميناتاوروس لا يأكل النّاس، بل يلاطفهم، أجابكم الطّفل في الحال: إنّكم تكذبون، إنّ وحوش الشّرّ لمضرّة حتىّ بالنّسبة للنّاس، أو أنّكم تريدون خداعي والتّغرير بي، لأكوّن انطباعا رقيقا عنها، فإذا كان الأمر كذلك، فإليكم عنّي… إنّ التّفاهة التي تحدّثونني عنها لكريهة وكئيبة”.

من هذه المقولة التي صدر بها كتابه ينطلق بسيسو لتركيز عناصر بحثه في مميزات أدب الطفل وطريقة الإنشاء فيه، مقسما عمله إلى أربعة أقسام كبرى هي: حول أدب الأطفال، وحول الكتابة للأطفال، وكتب الأطفال ومطبوعاتهم، وكتابة حرة تعي نفسها.

الطفل ليس كما نعرفه

يحاول كتاب “أدب الأطفال بين كتابة الإنشاء وإنشاء الكتابة” أن يكشف أهمّ السّمات الفكرية والفنية الواجب توفّرها في أيّ كتابة تتوخّى إمتاع الطفل وإفادته، من خلال نماذج تطبيقية وأمثلة، تبيانا للطريق الأمثل لكتابة أدب الطفل.

الكتابة الإبداعية الموجهة للأطفال تتميز فنيا وجماليا وأسلوبيا عن غيرها من مجالات الكتابة وحقولها

يشير عبدالرحمن بسيسو إلى أن الطفل لا يحب التّطويل، ولا يستسيغ الثّرثرة، لذلك نجده يريد الوصول إلى المغزى، والوقوع على الجوهري العميق ببساطة، أي دون استطراد تشتيتي مخل، أو تعقيد مربك. لذلك يرى الكاتب أن الاستطرادات، وتأجيل السّرد، والذهاب بعيدا عن الجوهري عبر إضافات لا تنسجم مع السياق الأساسي للحدث المروي، أو عبر استطرادات تؤجل نمو الحدث، دون أن تضيف جديدا إليه، تنعكس جميعها انعكاسا سالبا على عملية التلقي، سمعا أو قراءة، وتدفع بالطفل إلى التعبير عن رفضه لهذا النوع من التعامل الساذج معه، وذلك عبر إشارات أو إيماءات يرسلها محملة بدلالات رفضه العفوي.

يطالب بسيسو في كتابه “أدب الأطفال بين كتابة الإنشاء وإنشاء الكتابة” أن تكون الكتابة الموجهة إلى الأطفال رشيقة رقيقة، غير مترهلة، ويستحث خطى الراوي ألا تحيد عن الهدف، بالابتعاد قدر الإمكان عن الجمل والعبارات والتراكيب الزائدة، لإحداث التشويق وشدّ الطفل لمتابعة القصة.

والطفل، كما يرى بسيسو، في ارتباط وثيق بما سبق، لا يقبل على الحديث الغامض المموّه، والخالي من المعنى، إنه يريدنا أن نكف عن الرطانة، وأن نتحدث إليه بصراحة، وأن نسمي الأشياء بأسمائها، وإذ تتصل هذه السمة برفض التطويل والثرثرة، فإنها تشير إلى الامتعاض من جميع أشكال الخداع والتزوير والتزويق، فالطفل لا يستطيع الإقرار بما يخالف معارفه الناجمة عن صلته الحسية بظواهر العالم، ومكونات المحيط الطبيعي والاجتماعي، وليس بمقدوره أن يوافق على مخالفة انطباعاته ومدركاته عن الأشياء والأحياء والعلاقات إنه يتوق إلى تنمية هذه الانطباعات والمدركات بما ينسجم مع ما تنطوي عليه من تصورات ومفاهيم تشكّلت في مخيلته وعقله، وكمنت في ذاكرته.

 قد يتكوّن لدى الطفل انطباع بأن شجرة ما تغرد، ولكن هذا الانطباع يتحول إلى سؤال يقلقه، ويدفعه إلى البحث عن إجابة عنه، فإذا قلنا للطفل إنّ الشجرة تغرد، وسكتنا، فإنه سيكتشف أننا نتعامل معه باستخفاف وتعال، وسيرفض، من فوره، هذا النمط من التعامل المهين، وبالتالي، سيتجاهل قولنا، وسيواصل البحث، بمفرده، للعثور على إجابة عن سؤاله.

كيف نكتب للأطفال

يرى عبدالرحمن بسيسو أن لأدب الأطفال سماته الخاصة، وأنّ هذه السّمات تزداد حدّة ووضوحا كلما قل سن الطفل، أو الطّفلة، اللذين نتوجه إليهما بكتابتنا، ولا تقتصر هذه السّمات، في رأيه، على المضامين أو على طرائق تقديمها، وإنما تبدأ من الفكرة، وتمرّ باللّفظة والمفردة والجملة والعبارة والتركيب اللغوي والأسلوبي، وهي تشمل جميع البنى الجزئية والكلية للعمل الإبداعي.

إذن يذهب بنا الكاتب هنا إلى التساؤل: كيف نكتب للأطفال؟ ويجيب عن هذا السؤال بالانطلاق من تمييز الكتابة الإبداعية الموجهة للأطفال عن غيرها من مجالات الكتابة وحقولها، فالكتابة كتابات، والأدب آداب، والثقافة ثقافات، واللغة لغات، والأسلوب أساليب، كما يقول، والكتابة، في المحصلة النهائية وفي أغلب الحالات، هي رسالة ثقافية ذات موضوع.

يؤكد بسيسو أنه على الكاتب المبدع أن لا يبث رؤيته عبر المباشرة والتلقين، وإنما من خلال العلاقات الفنية، الأسلوبية والبنائية والدلالية، للعمل الفني. فحين يدخل الكاتب في صلب عملية إبداعية تتداخل فيها نصوص عديدة مشكلة بؤر تناص تتفاعل فيها شخصيات وأحداث، لتبني أنساقا وسياقات وعلاقات، فإنه ينهمك في واقعة سيكولوجية إبداعية هي أقرب ما تكون إلى تجربة رؤية داخلية تنهض على ما يسميه بسيسو “ديالكتيك التّماهي والتّناص”، حيث يتكفّل هذا الديالكتيك، منذ لحظة اشتغاله، بإنتاج بؤرة تشخيص مزجي تستقبل معطياته، فتصهرها، وتسكبها في النسيج النصي.

هناك سمات وخصائص تميز أدب الأطفال، فتصله بالأدب في معناه العام وتحفر له سياقا خاصا في إطاره، ويذكر منها الصدق في الكتابة ومحاولة التكثيف وإزالة العناصر الزائلة، وعدم إدخال الطفل في بذخ خيالي قد يؤدي إلى نتيجة عكسية بأن يرفض الطفل العمل الذي من المفروض أن يجتذب مخيلته.

ويلفت الكاتب إلى أن فكرة الكتب المعدّة للأطفال خصيصا هي فكرة حديثة العهد. لذلك فإن وجهة نظره حول خصائص أدب الطفل الفنية تستند إلى التأمل في الأعمال الأدبية التي تستهوي الصغار في حين أنها لم توضع خصيصا من أجلهم، كما أسلفنا، وذلك لأن أيا من مبدعي هذه الأعمال لم يستهدف جمهورا من الأطفال، “وكلّ ما في الأمر هو أنّهم، بما أوتوا من عبقرية، كانوا يكتبون بدرجة عالية من الإجادة والوضوح والإيجاز، وهي ميزات نادرة يصعب بلوغها، يسرت على الجميع، وضمن ذلك الأطفال، قراءة كتبهم”.

وقائع الحياة هي المدخل الصحيح لإبداع فن واقعي بكل معنى الكلمة، لأنه فن لا يعكس الحياة كما تفعل المرايا

وفي هذا السياق، يستذكر بسيسو رأي ميشيل تورنييه الذي يعتقد أن ثمة نقصا لا يغتفر في إبداعات كتاب متميزين عظام، من أمثال شكسبير وغوته وبلزاك، والدليل على ذلك أن “الأطفال لا يستطيعون قراءتها”.

يتطرق الكاتب إلى تفاصيل دقيقة حول كتابة أدب الأطفال ويذكر مثلا الضمائر المستخدمة في الحكي والتي يجب أن تكون دقيقة جدا وغير متداخلة، كما يذكر أسلوب دمج السرد بالحوار. فالحوار عنصر من أهم عناصر القص وأصعبها. ويخطئ الكتّاب حين لا يتخذونه وسيلة لتطوير الحبكة، وعرض الأحداث، وتعزيز بناء الشخصيات، وذلك لأن الالتفات، بانتباه متفحص، إلى ما تقوله الشخصية، وكيف تقوله، كفيل بأن يمدّ القصة بثراء الحياة، وأن يجعلها أكثر إمتاعا وتشويقا وإفادة.

كما يقرّ بأن تأسيس الكتابة على وقائع الحياة هو المدخل الصحيح لإبداع فن واقعي بكل معنى الكلمة، لأنه فن لا يعكس الحياة كما تفعل المرايا، بل يعيد إنتاجها محولا التجربة الحياتية إلى تجربة فنية، فلا يكون النّص مجرّد وسيط بين وسطين (واقع وإبداع)، وإنما يكون واقعا فنيا مستقلا، مكتفيا بذاته، لأنه يتأسس على تحويل الواقع إلى الفن.

ويعرض عبدالرحمن بسيسو بالتفصيل والأمثلة كيف للكاتب أن يبني حبكة قصصية موجهة للأطفال، في شكل جدول تطبيقي يتناول فيه مختلف مراحل الكتابة من التخطيط إلى الإنجاز.

 

Facebook
Twitter