وزير النفط في عهد صدام يتطاول على وزير الداخلية
تقديم:
( اجرى الزميل الدكتور احمد عبدالمجيد رئيس تحرير صحيفة الزمان/ طبعة العراق، حوارا مع وزير التعليم العالي والبحث العلمي الاسبق الدكتور همام عبدالخالق، ولاهميته التاريخية تعيد صحيفتنا نشره .. المحرر)
مضى نحو 15 عاماً على آخر لقاء جمعني مع وزير التعليم العالي والبحث العلمي السابق د. همام عبد الخالق.
وتقود المصادفات، الصحفي مثلي احياناً، الى فرص غير مدرجة على اجندته، وهو ما حدث معي، قبل ايام، وانا أزور الشارقة لحضور معرضها الدولي للكتاب.
كانت المصادفة سارة بالنسبة لي عندما اقترح عليّ زميل مغترب زيارة الدكتور عبد الخالق للأطمئنان على صحته. وكانت اللياقة تقتضي مني طلب الأذن منه مباشرة، لاسيما وانه يعاني من وعكة صحية فاتصلت به من هاتف زميلي وعرضت أمنيتي فرحب من دون تردد. وقلت هي فرصة مزدوجة اني أرد اليه فضلين ظلا راسخين في اعماقي، وكانا وراء تغيير مسار مجمل أحوالي.
الفضل الأول ان الدكتور عبد الخالق ، اطال الله في عمره، أسهم في انصافي ، عندما قدمت لدراسة الماجستير ضمن قناة المتميزين ، ولم يظهر اسمي بسبب تلاعب وجدته متحيزا لصالح زميلين آخرين، فقدمت اليه استرحاماً فتابعه وأنصفني. لقد كان قبولي في الدراسات العليا عام 1994 انعطافة لم أدرك اهميتها إلا بعد نحو عقد من الزمان.وأما فضله الثاني الذي لن أنساه أيضاً فهو سرعة استجابته لطلب قدمته بنقل خدماتي الوظيفية من وزارة الثقافة والاعلام الى وزارة التعليم العالي التي كان يتولاها للمرة الثانية، بعد نحو خمس سنوات من استيزاره لحقيبة الثقافة والاعلام للمدة من 1997 لغاية 2001.
وكنت قد انهيت دراسة الدكتوراه في قسم الاعلام بكلية الاداب بجامعة بغداد عام 2000، وزاولت التدريس محاضراً ، في السنة الاولى لتخرجي قبل ان اطلب اليه قبول نقلي الى التعليم ، وتلك حكاية طويلة رافقتها ظروف صعبة ضاغطة كنت أمر بها.وكانت الوزارة يومها قد استحدثت كلية الاعلام للمرة الأولى وألحقتها بالجامعة الأم.
كان الدكتور عبد الخالق يعاني آثار انفلونزا شديدة،لكن طبيعته العراقية المرحبة والكريمة دفعته الى الضغط على اوجاعه وقبول استقبالنا في شقته المتواضعة التي يسكنها في الطابق العاشر، وذلك انسجاما مع تقاليد زيارات المجاملة. نعم هي متوارية وضيقة ، لكن روح الثقافة والعلم التي يتحلى بها جعلتها فسيحة بحجم امارة .ولم افاجأ بالاستقبال الودي والحار الذي لمسناه منه. قدم القهوة الينا بنفسه . رفض قيامنا من أجل مساعدته. وبدا في غاية السعادة وهو يستقبل أثنين من تلاميذه وزملائه السابقين ، كما بدا كريما وهو يضع امامنا الحلوى، ومرتديا الدشداشة وفوقها العباءة النجفية.
لعلها واحدة من الاشياء التي رغب بحملها في حقائبه وهو يودع العراق في اخر ليلة، غداة اطلاق سراحه من سجن المطار الذي كان يعرف امريكيا باسم ( كوبر).
وكان طبيعيا ان يتلقى مني السؤال : كيف تمت عملية اعتقاله بعد 9 نيسان 2033؟ وماهي الملابسات التي رافقت ذلك؟ وقال (كنا ، انا والدكتور فهد الشكرة وزير التربية يومها في موقع بديل. كنا في منزل لازمناه ، اياما عدة ، قبل ان اجد نفسي مضطرا الى رفض الانتظار في هذا الموقع .
قلت ساذهب الى منزلي مهما كلفني ذلك.وكنت عرفت ان اسمي ضمن قائمة المطلوبين من القوات الامريكية.قلت ليأتوا الى منزلي ويعتقلونني .كنت موقنا ،تماما، انني بريء ولم أمارس او افعل شيئا يضر بمصلحة وطني، ولذلك اثرت ترك الموقع البديل ورفض عرض قدم لي من اقاربي بمغادرة العراق سرا.
وفعلا وصلت منزلي ، ولم تمر ساعات حتى دهمت قوة عسكرية مدججة بأنواع من الاسلحة المنزل وتم الاعتقال).
واضاف : (امضيت في الاعتقال ثلاث سنوات. واحمد الله انني لم أر او اصادف عراقيا واحدا في المعتقل ضمن الملاك الاداري. كانوا جميعا من الامريكيين،لأنني اكره رؤية عراقي يمارس دور سجان ضدي و أمثالي من أبناء جلدته.
لقد خدم كل واحد منا وطنه عقودا.وكنا مثالا للنزاهة واحترام الخدمة العامة ، كما انني أشقى اذ أرى عراقيا في هذا المكان. انني أعتبر الجميع مواطنين. أليسوا هم يحملون هوية بلادي؟).
وفيما كان زميلي الذي رافقته في الزيارة يحاول شحذ ذاكرة الدكتور عبد الخالق عن ايام الدراسة الاعدادية ، وابرز زملاء رحلته في منطقة الاعظمية كنت استعيد تفاصيل حادثة شهدها اجتماع لمجلس الوزراء كان صدام حسين يرأس الجلسة. وتدل واقعة من ايام الدراسة المستوى المتقدم لتفكير الدكتور عبد الخالق وجدية التعامل مع طلبات اساتذته.
ففي احد الايام عزم معاون مدير المدرسة الثانوية ، تفريق مجموعة مؤلفة من ثلاثة طلبة كان هو من بينهم. وبرغم توسلاتهم باعادة لم شملهم في شعبة واحدة ، الإ ان المعاون اشترط طلبا تعجيزيا لتنفيذ رغبتهم هو جلب فتوى من مفتي بغداد حصرا.
ومن اجل هذه الغاية ذهب الثلاثة الى جامع العساف في الاعظمية،الذي كان المفتي الراحل يؤمه.فصلوا الجماعة خلفه وتحدثوا اليه ، فما كان من المفتي الإ كتابة ورقة تناشد المعاون اعادة المجموعة الى الشعبة التي يرغبون بها. وقال (لازلت أتذكر كيف جلس الرجل وقد كان طاعنا في السن ، على مدرج المسجد وكتب بخط واضح وجميل.أنني نادم على عدم الاحتفاظ بهذه الوثيقة).
وقال (كانت مفاجأة غير متوقعة من المعاون الذي لم يتصور قيام طلبة بهذه الاعمار بمهمة صعبة من قبيل انتزاع رجاء او مناشدة المفتي).
أما الحادثة التي رأيت التحقق منها من الدكتور عبد الخالق فتتعلق بأمر الرئيس السابق لوزير النفط عامر رشيد العبيدي مغادرة جلسة منعقدة لمجلس الوزراء، وملخصها ان احتكاكا جرى بين العبيدي ووزير الداخلية السابق محمد زمام عبد الرزاق بشأن مسألة تخص مهمات الوزارتين.
وبرغم ان الحادثة وقعت خلال مسافة الطريق ، التي قطعتها حافلات صغيرة خاصة تنقل الوزراء الى موقع الاجتماع ،وكان على الاغلب في تكريت، الإ ان الوزير عبد الرزاق اشتكى امام صدام من أسلوب (تطاول) العبيدي عليه من غير مسوغ، وهو عضو في القيادة القطرية لحزب البعث.
ولم يحطنا الدكتور همام بالتفاصيل السالفة التي ذكرها لي محافظ البنك المركزي السابق المرحوم عصام رشيد حويش ، الذي كان حاضرا أيضا ، بل بدأ الحديث من حيث اطلق صدام أمره، والطلب الى العبيدي مغادرة جلسة مجلس الوزراء وعد نفسه خارج المنصب في تلك اللحظة.
وكان المبدأ ان العبيدي بدا حادا وافتقد القدرة على ايضاح ملابسات الحادث. وقال يبدو ان مشكلة حصلت بين الاثنين . وقبيل فض الجلسة وانتهاء جدول الاعمال ، طلب محمد زمام الكلام وتحدث عن قيام العبيدي بالتطاول عليه .
وكان ممكنا ساعتها ان يرد العبيدي بايضاح الحقيقة بهدوء أو طلب الاعتذار مما قد يفسر انه تطاول على عضو القيادة، لقد كان متوترا وفقد القدرة على الامساك بالهدوء.فما كان من الرئيس الإ الطلب من العبيدي مغادرة الاجتماع ومن الحماية ايصاله فورا الى الجهة التي يرتئيها).
وفعلا غادر العبيدي المكان. بعد ارتداء غطاء الرأس (البيرية) واداء التحية العسكرية ، في تلك اللحظة ساد الجلسة صمت رهيب، وكأن الطير على رؤوس نحو 40 مسؤولا رفيعا ،بين وزير ومن هم بدرجتهم، وجاءت المفاجأة من الدكتور عبد الخالق وقال : (رفعت يدي وطلبت الأذن بالحديث فمنحني الرئيس الفرصة .وقلت لدي واقعة من التاريخ.وعلى الفور انتبه الرئيس.واستذكرت ما قرأته في بطون الكتب عن الخليفة العباسي هارون الرشيد).
واضاف : (قلت كان للرشيد جارية مقربة اليه، جميلة وذكية، لكنها ضعيفة البنية.وبينما كانت ترفع ابريقا ثقيلا مصنوعا من النحاس عادة،سقط من يديها على قدم الرشيد ،فصرخ بوجهها غاضبا من الألم لكنها بادرته بتلاوة الاية الكريمة الكاظمين الغيظ . فقال الرشيد كظمنا.
واستكملت الجارية: العافين عن الناس ، فرد الرشيد لقد عفونا ، واستطردت الجارية بذكر بقية الأية الكريمة ، والله يحب المحسنين. فقال لها الرشيد انت حرة)،وواصل الدكتور همام بقية الواقعة وقال :(قلت ياسيدي انك من أصل ذلك السلف العظيم . وأرجوك ان تعفو عن زميلنا الفريق عامر رشيد ،لانه وزير ناجح وانا أدرك مبلغ محبتك له.
وهنا وللتاريخ اذكر – يقول الدكتور همام – ان الاخ ابو زياد ، محمد سعيد الصحاف ، رفع يديه طالبا الحديث وشرع،بعد ان أذن له الرئيس ، باستعراض ماّثر الفريق عامر وتعداد مناقبه في العمل والحياة).
واضاف الدكتور همام (ان الرئيس ظل يتأمل الحضور وفض الاجتماع لكن دعا المرحوم طارق عزيز الى اصطحابه.وفهمنا بعد حين ان الرئيس عفا عن الفريق عامر وعد الموضوع منتهيا.
وفعلا مارس واجباته في وزارة النفط في اليوم التالي. وخارج الاجتماع سألني بعض زملائي ومنهم وزير العدل منذر الشاوي : كيف حضرت في ذهنك هذه الواقعة؟).
وعلقت، من جهتي، على الفور (ان الله عندما يقدم المساعدة يهيئ أصحاب الخير الى الحضور). وهزّ الدكتور همام رأسه موافقا.
وتوحي تفاصيل هذه الواقعة ، من بين امور عدة، ان عضو القيادة محمد زمام لم يكن يتوقع قيام اثنين من زملائه الوزراء التكنوقراط، بالتجرؤ على الانتصاف لغريمه، ومناشدة الرئيس العفو عنه، فيما يملك العبيدي حضورا مريحا دفع زملاءه للانتصاف له والدفاع عنه امام الرئيس. كما يفهم من الواقعة ان صداما كان يستعين بطارق عزيز وطه ياسين رمضان،في اتخاذ قرارات صعبة بالنسبه له من قبيل العودة عن اعفاء الوزراء من مناصبهم او توجيه اللوم والتقريع لهم اذا استوجب الأمر ذلك ، ويفهم ثالثا وأيضا، ان الاجتماعات التي يرأسها صدام تشهد ، احيانا،صراعا خفيا، حينما تحين المناسبة او يتوجب الموقف طرح القضايا والملفات الساخنة، بين الحمائم التي يتزعمها عزيز والصقور التي يقودها رمضان.
ويمضي الدكتور همام معظم ساعات يومه بالمطالعة والتأليف وبرغم عزوفه عن متابعة معظم اخبار العراق،فانه حرص على توثيق بعض المحطات البارزة في قطاعي التعليم العالي والبحث العلمي والطاقة الذرية التي تابع ورافق برنامجها الى درجة اني اعده أبا هذا البرنامج الذي وصل الى مرحلة متقدمة اقلقت اسرائيل وتسببت بتداعيات لاحصر لها في الوضع العراقي بالنسبة للادارة الامريكية.(يتبع في العدد المقبل).